مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

قوله تعالى : { فجعلهم كعصف مأكول } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا في تفسير العصف وجوها ذكرناها في قوله : { والحب ذو العصف } وذكروا ههنا وجوها : ( أحدها ) أنه ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد وتعصفه الرياح فتأكله المواشي ( وثانيها ) قال أبو مسلم : العصف التبن لقوله : { ذو العصف والريحان } لأنه تعصف به الريح عند الذر فتفرقه عن الحب ، وهو إذا كان مأكولا فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه ( وثالثها ) : قال الفراء : هو أطراف الزرع قبل أن يدرك السنبل ( ورابعها ) : هو الحب الذي أكل لبه وبقي قشره .

المسألة الثانية : ذكروا في تفسير المأكول وجوها ( أحدها ) : أنه الذي أكل ، وعلى هذا الوجه ففيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون المعنى كزرع وتبن قد أكلته الدواب ، ثم ألقته روثا ، ثم يجف وتتفرق أجزاؤه ، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث ، إلا أن العبارة عنه جاءت على ما عليه آداب القرآن ، كقوله : { كانا يأكلان الطعام } وهو قول مقاتل ، وقتادة وعطاء عن ابن عباس .

والاحتمال الثاني : على هذا الوجه أن يكون التشبيه واقعا بورق الزرع إذا وقع فيه الآكال ، وهو أن يأكله الدود ( الوجه الثاني ) في تفسير قوله : { مأكول } هو أنه جعلهم كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه ، وعلى هذا التقدير يكون المعنى : كعصف مأكول الحب كما يقال : فلان حسن أي حسن الوجه ، فأجرى مأكول على العصف من أجل أنه أكل حبه لأن هذا المعنى معلوم وهذا قول الحسن ( الوجه الثالث ) : في التفسير أن يكون معنى : ( مأكول ) أنه مما يؤكل ، يعني تأكله الدواب يقال : لكل شيء يصلح للأكل هو مأكول والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب وهو قول عكرمة والضحاك .

المسألة الثالثة : قال بعضهم : إن الحجاج خرب الكعبة ، ولم يحدث شيء من ذلك ، فدل على أن قصة الفيل ما كانت على هذا الوجه وإن كانت هكذا إلا أن السبب لتلك الواقعة أمر آخر سوى تعظيم الكعبة ( والجواب ) : أنا بينا أن ذلك وقع إرهاصا لأمر محمد صلى الله عليه وسلم ، والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه ، أما بعد قدومه وتأكد نبوته بالدلائل القاطعة فلا حاجة إلى شيء من ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .