{ يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها( 69 ) يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا( 70 ) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما( 71 ) }
{ يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } .
هذه تربية للمؤمنين نحو نبيهم أن يحترموه ويعزروه ويوقروه وألا ينسبوا إليه ما لا يليق كقول بعض المنافقين إن محمدا تزوج مطلقة ابنه ، وشغبوا عليه في ذلك بحثا عن أي نقطة ينفذون منها إلى إنقاصه .
وفي الصحيح أن بعض الأعراب قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يوزع الغنائم هذه قسمة ما أريد بها وجه الله اعدل ، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للأعرابي " ويحك فمن يعدل إن لم أعدل " ثم قال صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " . 74
وقد أفاد القرآن الكريم أن بني إسرائيل كثر عنتهم فقالوا لموسى : { أرنا الله جهرة . . . } ( النساء : 153 ) .
وقالوا : { اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة . . . } ( الأعراف : 138 ) .
وقالوا : { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . . } ( المائدة : 24 ) .
وأفادت كتب الصحيح مما رواه الإمام البخاري والترمذي أن بني إسرائيل اتهموا موسى بأن في جلده برصا أو به أدرة ، أي كثير الخصبة ، وأنه لذلك يستتر بعيدا عنهم عند الاستحمام وأن موسى اغتسل يوما ووضع ثوبه على حجر فطار الحجر بثوبه فسار موسى وراء الحجر يقول ثوبي حجر ثوبي حجر فرآه جمع من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله " . 75
وقد أفاد الفخر الرازي وغيره من المفسرين أن بني إسرائيل أشاعوا عن موسى النقائص فنسبوا إليه السحر والجنون ولطخوه بالزنا و أشاعوا عنه أنه قتل أخاه هارون وكان هارون قد مات فدفنه في سيناء وعاد وحيدا .
وقد أظهر الله براءة موسى من كل هذه التهم والأكاذيب وقد حباه الله بالفضل حين رعاه وصنعه على عينه ونجاه من اليم ومن فرعون وملئه وأعطاه الرسالة وناداه من جانب الطور الأيمن وجعل له سلطانا وحفظه من أذى فرعون وجعله الله من أولى العزم من الرسل ورفع منزلته وأعطاه التوراة وجعله وجيها ذا وجاهة وشرف وسيرة حسنة .
ومقصود الآية نهي المسلمين عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى مدح رسوله وبوأه المنازل العالية والابتعاد عن التشبيه بقوم موسى الذين آذوه ، وقد برأه الله من التهم التي نسبت إليه وكان موسى وجيها عالي القدر والمنزلة عند الله تعالى .
قال تعالى : { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمان وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } . ( مريم : 51-53 ) .
{ 69 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا }
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم ، محمد صلى اللّه عليه وسلم ، النبي الكريم ، الرءوف الرحيم ، فيقابلوه بضد ما يجب له من الإكرام والاحترام ، وأن لا يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى بن عمران ، كليم الرحمن ، فبرأه اللّه مما قالوا من الأذية ، أي : أظهر اللّه لهم براءته . والحال أنه عليه الصلاة والسلام ، ليس محل التهمة والأذية ، فإنه كان وجيها عند اللّه ، مقربًا لديه ، من خواص المرسلين ، ومن عباده المخلصين ، فلم يزجرهم ما له ، من الفضائل عن أذيته والتعرض له بما يكره ، فاحذروا أيها المؤمنون ، أن تتشبهوا بهم في ذلك ، والأذية المشار إليها هي قول بني إسرائيل لموسى{[731]} لما رأوا شدة حيائه وتستره عنهم : " إنه ما يمنعه من ذلك إلا أنه آدر " أي : كبير الخصيتين ، واشتهر ذلك عندهم ، فأراد الله أن يبرئه منهم ، فاغتسل يومًا ، ووضع ثوبه على حجر ، ففر الحجر بثوبه ، فأهوى موسى عليه السلام في طلبه ، فمر به على مجالس بني إسرائيل ، فرأوه أحسن خلق اللّه ، فزال عنه ما رموه به .
لما ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء ، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى . واختلف الناس فيما أوذي به محمد صلى الله عليه وسلم وموسى ، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا عليه السلام قولهم : زيد بن محمد . وقال أبو وائل : أذيته أنه صلى الله عليه وسلم قسم قسما . فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : ( رحم الله لقد أوذي لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر . وأما أذية موسى صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس وجماعة : هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه قال : ( كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هو آدر{[12932]} وأبرص أو به آفة ، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر{[12933]} حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة ، وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك " فبرأه الله مما قالوا " أخرجه البخاري ومسلم بمعناه . ولفظ مسلم : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال : فذهب يوما{[12934]} يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال : فجمح{[12935]} موسى عليه السلام بإثره يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا : والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا ) قال أبو هريرة : والله إنه بالحجر ندب{[12936]} ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر . فهذا قول . وروي عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال : آذوا موسى بأن قالوا : قتل هارون ؛ وذلك أن موسى وهرون خرجا من فحص{[12937]} التيه إلى جبل فمات هارون فيه ، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى : أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا . فآذوه بذلك ، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل ، ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى ، ولم يكن فيه أثر القتل . وقد قيل : إن الملائكة تكليما بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرَّخَم ، وإنه تعالى جعله أصم أبكم . ومات هارون قبل موسى في التيه ، ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين . وحكى القشيري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله ، ثم مات . وقد قيل : إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون . والصحيح الأول . ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرأه الله من جميع ذلك .
مسألة : في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخول في الماء عريانا دليل على جواز ذلك ، وهو مذهب الجمهور . ومنعه ابن أبي ليلى واحتج بحديث لم يصح ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :( لا تدخلوا الماء إلا بمئزر فإن للماء عامرا ) . قال القاضي عياض : وهو ضعيف عند أهل العلم .
قلت : أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبد الأعلى أن الحسن بن علي دخل غديرا وعليه برد له متوشحا به ، فلما خرج قيل له ، قال : إنما تسترت ممن يراني ولا أراه ، يعني من ربي والملائكة . فإن قيل : كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل ؟ قيل : لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل . و " حجر " منادى مفرد محذوف حرف النداء ، كما قال تعالى : " يوسف أعرض عن{[12938]} هذا " [ يوسف : 29 ] . و " ثوبي " منصوب بفعل مضمر ، التقدير : أعطني ثوبي ، أو اترك ثوبي ، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه .
قوله تعالى : " وكان عند الله وجيها " أي عظيما . والوجيه عند العرب : العظيم القدر الرفيع المنزلة . ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه . وقرأ ابن مسعود : " وكان عبدا لله " . وقيل : معنى " وجيها " أي كلمه تكليما . قال أبو بكر الأنباري في ( كتاب الرد ) : زعم من طعن في القرآن أن المسلمين صحفوا " وكان عند الله وجيها " وأن الصواب عنده " وكان عبدا لله وجيها " وذلك يدل على ضعف مقصده ونقصان فهمه وقلة علمه ، وذلك أن الآية لو حملت على قول وقرئت : " وكان عبدا " نقص الثناء على موسى عليه السلام ، وذلك أن " وجيها " يكون عند أهل الدنيا وعند أهل زمانه وعند أهل الآخرة ، فلا يوقف على مكان المدح ، لأنه إن كان وجيها عند بني الدنيا كان ذلك إنعاما من الله عليه لا يبين عليه معه ثناء من الله . فلما أوضح الله تعالى موضع المدح بقوله : " وكان عند الله وجيها " استحق الشرف وأعظم الرفعة بأن الوجاهة عند الله ، فمن غير اللفظ صرف عن نبي الله أفخر الثناء وأعظم المدح .