تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (142)

قول السفهاء

{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم( 142( }

المفردات :

السفهاء : خفاف العقول أو الجهلاء .

ما ولاهم : ما صرفهم .

صراط مستقيم : طريق قويم لا عوج فيه ، والمراد به هنا طريق الحق .

المعنى الإجمالي :

إن ضعفاء العقول الذين أضلتهم أهواؤهم عن التفكير والتدبر من اليهود والمشركين والمنافقين ، سينكرون على المؤمنين تحولهم من قبلة بيت المقدس التي كانوا يصلون متجهين إليها ، ويعتقدون أنها أحق إلى قبلة أخرى وهي الكعبة ، فقل لهم أيها النبي : إن الجهات كلها لله ، لا فضل لجهة على أخرى بذاتها ، بل الله هو الذي يختار منها ما يشاء ليكون قبلة للصلاة ، وهو يهدي بمشيئته كل أمة من الأمم إلى طريق قويم يختاره لها ويخصها به ، وقد جاءت الرسالة المحمدية فنسخت ما قبلها من الرسالات وصارت القبلة الحقة إلى الكعبة .

التفسير :

{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم من قبلتهم التي كانوا عليها . . . }

كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مكة متجها إلى البيت الحرام .

فلما هاجر إلى المدينة اتجه إلى بيت المقدس ، وكان ذلك بتوجيه من السماء ، ليقطع الله صلة المسلمين بمكة ، وليصرف نفوسهم عنها بعض الوقت ، وليختبر مدى صدقهم وتلبيتهم لأمر الله . قال تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . ( البقرة 143 ) .

وبعد أن توجه المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، أمرهم الله أن يتحلوا بقبلة الصلاة إلى المسجد الحرام .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن تكون قبلته إلى البيت الحرام ، ويرفع وجهه إلى السماء ويستحي أن يتلفظ بذلك . قال تعالى :

{ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .

وقد روى البخاري في صحيحه عن البراء :

«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها( 1 ) صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون( 2 ) فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت » ( 3 ) .

وفي رواية ابن إسحاق وغيره ، عنه ، زيادة :

فأنزل الله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . . . }الآية .

وقد أثار تحول القبلة ثائرة اليهود ، وادعوا أن محمد أشتبه عليه دينه وحن إلى دين آبائه وأثاروا كثيرا من المشاكل ، فادعوا أن صلاة المسلمين السابقة إلى بيت المقدس تعتبر باطلة لأنها كانت إلى غير القبلة الصحيحة .

وقد دافع القرآن عن تحويل القبلة ورد على هؤلاء السفهاء من المشركين والمنافقين واليهود شكوكهم وشبهاتهم . فبين أن الكون كله ملك لله ، وأينما يتوجه الإنسان شرقا أو غربا فالأفق كله لله والصلاة كلها يتجه فيها المؤمن إلى الله .

والمؤمن يمتثل أمر الله بالاتجاه إلى بيت المقدس عندما يأمر الله بذلك ، وبالاتجاه إلى الكعبة عندما يأمره الله بذلك .

{ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } .

أي قل لهم يا محمد ، إذا اعترضوا على التحويل : إن الأمكنة كلها لله ، ملكا وتصرفا ، وهي بالنسبة إليه متساوية ، وله أن يخص بعضها بحكم دون بعض ، فإذا أمرنا باستقبال جهة في الصلاة فلحكمة اقتضت الأمر ، وما على الناس إلا أن يمتثلوا أوامره ، والمؤمنون ما اتخذوا الكعبة قبلة لهم إلا امتثالا لأمر ربهم ، لا ترجيحا لبعض الجهات من تلقاء أنفسهم ، فالله هو الذي يهدي من يشاء هدايته إلى السبيل الحق ، فيتوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك ، ثم إلى الكعبة ، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به .

وقد ذهب الإمام الزمخشري وغيره من المفسرين ، إلى أن الله سبحانه أخبر بما سيقول السفهاء قبل وقوعه ، ليكون وقعه خفيفا على قلوب المسلمين عند حدوثه ، لأن مفاجأة المكروه أشد ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع ، لما يتقدمه من توطين النفس ، وأن الجواب العتيد( 4 ) قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه وفي هذا أيضا إعجاز قرآني ، للإخبار بالغيب قبل وقوعه .

وذهب القرطبي وغيره إلى أن الفعل ( سيقول ) بمعنى قال ، وأن الآية الكريمة أوردت الماضي بصيغة المستقبل ، دلالة على استمرار ذلك القول وتجدده .