تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة الجمعة

( سورة الجمعة مدنية ، وآياتها 11 آية ، نزلت بعد سورة يوسف )

وقد عُنيت السورة بتربية المسلمين وجمعهم على الحق والإيمان ، ودعوتهم إلى المحافظة على صلاة الجمعة ، والامتناع عن الانشغال بغيرها من اللهو أو البيع ، وقد مهدت لذلك ببيان أن كل شيء يسبح بحمد الله . وقد منّ الله على العرب بإرسال نبي الهدى والرحمة ليرشدهم إلى الخير ، ويأخذ بأيديهم إلى الطهارة والفضيلة ، وقارنت السورة بين المسلمين واليهود ، وعيَّرت اليهود بإهمالهم تعاليم التوراة وإعراضهم عنها ، وشبههم القرآن بالحمار يحمل كتب العلم ولا يستفيد بها ، وهو تشبيه رائع يفيد أن التوراة بشرت بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعت أهلها إلى الإيمان به ، لكنهم لم يستفيدوا بهداية التوراة ، فحرموا أنفسهم من الانتفاع بأبلغ نافذ مع قرب هذا الانتفاع منهم .

تسلسل أفكار السورة

بدأت السورة بمطلع رائع ، يقرر حقيقة التسبيح المستمر من كل ما في الوجود . ( الآية : 1 ) .

وجاء في تفسير النسفي : التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة ، يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . } ( الإسراء : 44 ) .

أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفته بذلك . i

وبينت السورة أن الله قد اختار العرب ليرسل فيهم نبيّ آخر الزمان ، ليطهرهم ويعلمهم القرآن والأحكام الشرعية ، وحسن تقدير الأمور بعد أن كانوا في الجاهلية في ضلال وكفر وانحلال . ( آية : 2 ) .

وقد وصف جعفر بن أبي طالبii ضلال الجاهلية للنجاشي ملك الحبشة ، فقال : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونُسيء الجوار ، ويأكل القويّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .

لقد اختار الله الجزيرة العربية لتحمل رسالة الإصلاح ، وليمتدّ هذا النور الهادي إلى ممالك الفرس والروم ، حيث كانت هذه البلاد العريقة قد انغمست في الترف والانحلال . .

وبين مظاهر الفساد الشامل وُلد الرجل الذي وحّد العالم جميعهiii . وقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أولياؤه من دون الناس ، فبينت الآيات أنهم لم يعودوا صالحين لحمل رسالة السماء ، فقد أخلدوا إلى الدنيا ، وكرهوا الموت لأنهم لم يقدّموا عملا صالحا ، بل قدّموا الدسّ والخداع والوقيعة : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } . ( الجمعة : 7 ) . مطّلع عليهم وسيجزيهم على عملهم . ( الآيات : 5-8 ) .

والمقطع الأخير من السورة يتحدث عن صلاة الجمعة ، وهي فريضة أسبوعية يتلاقى المسلمون فيها لتعلم أمور دينهم ، وتنظيم حياتهم ، وتفقّد شئونهم ، وهي وسيلة للعبادة والطاعة ، وصفاء النفس ، وطهارة الروح .

والإسلام دين ودنيا ، وعقيدة وسلوك ، وشرائع وآداب ، وعلم وعمل ، وعبادة وسيادة .

فإذا انتهت صلاة الجمعة خرج المسلم باحثا عن رزقه ، نشيطا في عمله فعبادة الله تكون في المسجد بالصلاة ، وتكون خارج المسجد بالتجارة والزراعة وطلب القوت من حلال .

وفي الحديث الصحيح : " إن لربك عليك حقا ، وإن لبدنك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه " iv .

وكان عِراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين . v .

النبي الأمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( 2 ) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 4 ) }

1

المفردات :

يسبح لله : ينزّهه ويمجّده ويدلّ عليه .

الملك : مالك الأشياء كلها .

القدّوس : البليغ في النزاهة عن النقائص ، البالغ غاية الطهر .

العزيز : القادر ، الغالب ، القاهر .

التفسير :

1- { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } .

تأتي مادة التسبيح بالفعل الماضي ، كما سبق قريبا في سورة الحديد ، وتأتي بالفعل المضارع للدّلالة على الحدوث والتجدد ، والاستمرار في التسبيح في الحال والاستقبال .

وتأتي بصيغة الأمر ، مثل قوله تعالى : سبِّح باسم ربّك الأعلى . ( الأعلى : 1 ) .

وفي ذلك دلالة على أنّ هذا الكون العظيم ناطق بالتسبيح والتنزيه والحمد لله ، سواء أكان ذلك بلسان الحال أم بلسان المقال .

قال تعالى : وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . ( الإسراء : 44 ) .

أي : يسبح وينزه الله ويقدّسه ما في السماوات : من الملائكة والنجوم والأفلام ، والشموس والأقمار ، وما في الأرض : من نبات وحيوان ، وإنسان وجماد ، وبحار وأنهار ، وطيور ووحوش وحشرات ، وليل ونهار ، وغير ذلك .

وهو سبحانه :

المَلِك : مالك الأشياء كلها .

الْقُدُّوسِ : المنزّه عن النقائص ، البالغ غاية الطهر .

الْعَزِيزِ : القادر الغالب القاهر .

الْحَكِيمِ : المتقن للأمور ، بديع السماوات والأرض ، في غاية الإتقان والحكمة ، والتقدير الحسن لجميع ما خلق ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا .