السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57)

ثالثها : قوله تعالى : { ورفعناه مكاناً علياً } وفيه قولان :

أحدهما : أنه من رفع المنزلة كقوله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وسلم { ورفعنا لك ذكرك } [ الانشراح ، 40 ]

فإنّ الله تعالى شرّفه بالنبوّة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا من قبله يلبسون الجلود وأوّل من اتخذ السلاح وقاتل الكفار .

وثانيهما : أنه من رفعة المكان ثم اختلفوا فقال بعضهم : رفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة وهي التي رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء وقيل : إلى الجنة وهو حيّ لا يموت وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس واثنان في السماء عيسى وإدريس وقال وهب كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجبت منه الملائكة واشتاق له ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس وقال له الليلة الثالثة : إني أريد أن أعلم من أنت ، قال أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فقال : لي إليك حاجة قال ما هي قال تقبض روحي فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه ، فقبض روحه وردّها إليه بعد ساعة ، فقال له ملك الموت : ما الفائدة في سؤالك قبض الروح ؟ قال لأذوق كرب الموت وغمته فأكون أشدّ استعداد له ، ثم قال له إدريس : إنّ لي إليك حاجة أخرى ، قال : وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله تعالى له في ذلك فرفعه فلما قرب من النار قال : لي إليك حاجة ، قال : وما تريد ؟ قال : تسأل مالكاً أن يفتح أبوابها فأردها ، ففعل ثم قال : كما أريتني النار فأرني الجنة فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتح أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مكانك فتعلق بشجرة وقال ما أخرج منها فبعث الله تعالى ملكاً حكماً بينهما ، فقال له الملك : ما لك لا تخرج ؟ قال : إنّ الله تعالى قال : { كل نفس ذائقة الموت } [ آل عمران ، 185 ] وقد ذقته ، وقال :{ وإن منكم إلا واردها } [ مريم ، 71 ] وقد وردتها وقال : { وما هم منها بمخرجين } [ الحجر ، 48 ]

فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبإذني لا يخرج فهو حيّ هناك ، وقال آخرون : بل رفع إلى السماء وقبض روحه .

وقال كعب الأحبار : إنّ إدريس سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إني مشيت يوماً فكيف يمشي من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهمّ خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرّها ما لا يعرفه فقال : يا رب خففت عني حرّ الشمس فما الذي قضيت فيه ؟ فقال تعالى : إنّ عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرّها فأجبته قال يا رب اجعل بيني وبينه خلة ، فأذن له حتى أتى إدريس فكان إدريس يسأله فكان مما سأله أن قال له : إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي ليؤخر أجلي فازداد شكراً وعبادة ، فقال الملك : لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله فقال ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدّم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال : إني أتيتك وتركته هناك ، قال : فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتاً .