الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57)

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { ورفعناه مكاناً علياً } قال : كان إدريس خياطاً . وكان لا يغرز إلا قال : سبحان الله ، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل منه عملاً ، فاستأذن ملك من الملائكة ربه ، فقال يا رب ائذن لي فاهبط إلى إدريس . فأذن له ، فأتى إدريس فسلم عليه ، وقال : إني جئتك لأحدثك ، فقال : كيف تحدثني وأنت ملك وأنا إنسان ، ثم قال إدريس هل بينك وبين ملك الموت شيء ؟ قال الملك : ذاك أخي من الملائكة ، فقال : هل يستطيع أن ينسئني عند الموت ؟ قال : أما أن يؤخر شيئاً أو يُقّدِّمَهُ فلا ، ولكن سأكلمه لك ، فيرفق بك عند الموت ، فقال : اركب بين جناحي ، فركب إدريس ، فصعد إلى السماء العليا ، فلقي ملك الموت إدريس بين جناحيه ، فقال له الملك إن لي إليك حاجة ، قال : علمت حاجتك ، تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة ، ولم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين ، فمات إدريس بين جناحي الملك .

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : سألت كعباً عن رفع إدريس { مكاناً علياً } فقال : كان عبداً تقياً رفع له من العمل الصالح ما رفع لأهل الأرض في زمانه ، فعجب الملك الذي كان يصعد عليه عمله ، فاستأذن ربه قال : رب ، ائذن لي آتي عبدك هذا فأزوره ، فأذن له ، فنزل قال : يا إدريس ، أبشرْ ، فإنه رفع لك من العمل الصالح ما لا رفع لأهل الأرض ، قال : وما علمك ؟ ! قال إني ملك . قال : وإن كنت ملكاً ؟ قال : فإني على الباب الذي يصعد عليه عملك . قال : أفلا تشفع إلى ملك الموت ، فيؤخر من أجلي لأزداد شكراً وعبادة ؟ قال الملك : { لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها } [ المنافقون : 11 ] قال : قد علمت ، ولكنه أطيب لنفسي ، فحمله الملك على جناحه ، فصعد به إلى السماء فقال : يا ملك الموت ، هذا عبد تقي ، نبي رفع له من العمل الصالح ما لا يرفع لأهل الأرض ، وإني أعجبني ذلك ، فاستأذنت ربي عليه ، فلما بشرته بذلك ، سألني لأشفع له إليك لتؤخر له من أجله ؛ ليزداد شكراً وعبادة .

قال : ومن هذا ؟ قال : إدريس ، فنظر في كتاب معه حتى مر باسمه ، فقال : والله ما بقي من أجل إدريس شيء ، فمحاه ، فمات مكانه .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : { ورفعناه مكاناً علياً } قال : رفع إلى السماء السادسة فمات فيها .

وأخرج الترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه ، عن قتادة في قوله : { ورفعناه مكاناً علياً } قال : حدثنا أنس بن مالك ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة » .

وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم { ورفعناه مكاناً علياً } قال : في السماء الرابعة .

وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد رضي الله عنه ، والربيع مثله .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في الآية قال : رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت .

وأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إدريس هو إلياس .

وأخرج ابن المنذر ، عن عمر مولى غفرة يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن إدريس كان نبياً تقياً زكياً ، وكان يقسم دهره على نصفين : ثلاثة أيام يعلم الناس الخير ، وأربعة أيام يسيح في الأرض ، ويعبد الله مجتهداً . وكان يصعد من عمله وحده إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم ، وإن ملك الموت أحبه في الله ، فأتاه حين خرج للسياحة فقال له : يا نبي الله ، إني أريد أن تأذن لي في صحبتك . فقال له إدريس - وهو لا يعرفه - إنك لن تقوى على صحبتي . قال : بلى ، إني أرجو أن يقويني الله على ذلك ، فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مر براعي غنم ، فقال ملك الموت لإدريس : يا نبي الله ، إنا لا ندري حيث نمسي ، فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فأفطرنا عليها ؟ فقال له إدريس : لا تعد إلى مثل هذا ، تدعوني إلى أخذ ما ليس لنا ، من حيث نمسي يأتي الله برزق ! فلما أمسى أتاه الله بالرزق الذي كان يأتيه ، فقال لملك الموت : تقدم فكل . فقال ملك الموت : لا والذي أكرمك بالنبوة ما أشتهي . فأكل إدريس وقاما جميعاً إلى الصلاة ، ففتر إدريس وكل ومل ونعس ، وملك الموت لا يفتر ولا يمل ولا ينعس ، فعجب منه وقال : قد كنت أظن أني أقوى الناس على العبادة فهذا أقوى مني ! فصغرت عنده عبادته عندما رأى منه . ثم أصبحا فساحاً ، فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال ملك الموت لإدريس : يا نبي الله ، لو أخذنا قطفاً من هذا العنب لأنا لا ندري حيث نمسي .

فقال إدريس : ألم أنهك عن هذا وأنت حيث تمسي يأتينا الله برزق ! فلما أمسى أتاه الله الرزق الذي كان يأتيه فأكل إدريس ، فقال لملك الموت هلم فكل . فقال : لا والذي أكرمك بالنبوة يا نبي الله ، لا أشتهي . فعجب ! ثم قاما إلى الصلاة ففتر إدريس أيضاً ، وكل ومل ، وملك الموت لا يكلّ ولا يفتر ولا ينعس . فقال له عند ذلك إدريس : لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم ! فقال له ملك الموت عنده ذلك : أجل لست من بني آدم . فقال له إدريس : فمن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت . فقال له إدريس : أمرتَ فيَّ بأمر ؟ فقال له : لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك ، ولكني أحبك في الله ، وصحبتك له . فقال له إدريس : يا ملك الموت ، إنك معي ثلاثة أيام بلياليها لم تقبض روح أحد من الخلق ؟ قال : بلى والذي أكرمك بالنبوة يا نبي الله ، إني معك من حين رأيت ، وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها ، وما الدنيا عندي إلا بمنزلة المائدة بين يدي الرجل ، يمد يده ليتناول منها ما شاء . فقال له إدريس : يا ملك الموت ، أسألك بالذي أحببتني له وفيه ألا قضيت لي حاجة أسألكها ؟ فقال له ملك الموت : سلني ما أحببت يا نبي الله . فقال : أحب أن تذيقني الموت ، وتفرق بين روحي وجسدي حتى أجد طعم الموت ، ثم ترد إلي روحي . فقال له ملك الموت - عليه السلام - : ما أقدر على ذلك ، إلا أن استأذن فيه ربي ، فقال له إدريس - عليه السلام - فاستأذنه في ذلك . فعرج ملك الموت إلى ربه ، فأذن له ، فقبض نفسه وفرق بين روحه وجسده ، فلما سقط إدريس عليه السلام ميتاً ، رد الله إليه روحه ، وطفق يمسح وجهه وهو يقول : يا نبي الله ، ما كنت أريد أن يكون هذا حظك من صحبتي ! فلما أفاق ، قال له ملك الموت : يا نبي الله ، كيف وجدت ؟ قال : يا ملك الموت ، قد كنت أحدث وأسمع ، فإذا هو أعظم مما كنت أحدث وأسمع ! ثم قال : يا ملك الموت ، أريد منك حاجة أخرى قال : وما هي ؟ قال : تريني النار حتى أنظر إلى لمحة منها . فقال له ملك الموت : وما لك وللنار ، إني لأرجو أن لا تراها ، ولا تكون من أهلها ، قال : بلى أريد ذلك ؛ ليكون أشد لرهبتي وخوفي منها ! فانطلق إلى باب من أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فأجابوه ، وقالوا : من هذا ؟ قال : أنا ملك الموت - فارتعدت فرائصهم - قالوا : أمرت فينا بأمر ؟ فقال : لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ، ولكن نبي الله إدريس - عليه السلام - سألني أن تروه لمحة من النار .

ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه من حرها ولهبها وزفيرها ما صعق ! فقال ملك الموت : أغلقوا ! فأغلقوا ، فمسح ملك الموت وجهه وهو يقول : يا نبي الله ، ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي . فلما أفاق قال له ملك الموت : يا نبي الله ، كيف رأيت ؟ قال : يا ملك الموت ، كنت أحدث وأسمع ، فإذا هو أعظم مما كنت أحدث وأسمع ! فقال له : يا ملك الموت ، قد بقيت لي حاجة أخرى لم يبق غيرها . قال : وما هي ؟ قال : تريني لمحة من الجنة . قال له ملك الموت - عليه السلام : يا نبي الله أبشر ! فإنك إن شاء الله من خيار أهلها ، وأنها إن شاء الله مقيلك ومصيرك . فقال : يا ملك الموت ، إني أحب أن أنظر إليها ، ولعل ذلك أن يكون أشد لشوقي وحرصي وطلبي ! فذهب به إلى باب من أبواب الجنة ، فنادى بعض خزنتها فأجابوه ، فقالوا : من هذا ؟ قال : ملك الموت . فارتعدت فرائصهم ، وقالوا : أمرت فينا بشيء ؟ فقال : لو أمرت فيكم بشيء ما ناظرتكم ، ولكن نبي الله إدريس - عليه السلام - سأل أن ينظر إلى لمحة من الجنة فافتحوا . فلما فتح أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال : يا ملك الموت ، إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها ، وأشرب شربة من مائها ، فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي وحرصي . فقال : ادخل . فدخل فأكل من ثمارها ، وشرب من مائها . فقال له ملك الموت ، اخرج يا نبي الله ، قد أصبت حاجتك حتى يردك الله مع الأنبياء يوم القيامة . فاحتضن بساق شجرة من شجر الجنة وقال : ما أنا بخارج منها ، وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك . فأوحى الله إلى ملك الموت ، قاضه الخصومة . فقال له ملك الموت : ما الذي تخاصمني به يا نبي الله ؟ فقال إدريس : قال الله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } [ آل عمران : 185 ] فقد ذقت الموت الذي كتبه الله على خلقه مرة واحدة . وقال الله : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً } [ مريم : 76 ] وقد وردتها ، أفأردها مرة بعد مرة ؟ وإنما كتب الله ورودها على خلقه مرة واحدة ، وقال لأهل الجنة : { وما هم منها بمخرجين } [ الحجر : 48 ] أفأخرج من شيء ساقه الله إليّ ؟ فأوحى الله إلى ملك الموت ، خصمك عبدي إدريس ، وعزتي وجلالي : إن في سابق علمي قبل أن أخلقه أنه لا موت عليه إلا الموتة التي ماتها ، وأنه لا يرى جهنم إلا الورد الذي وردها ، وأنه يدخل الجنة في الساعة التي دخلها ، وأنه ليس بخارج منها ، فدعه يا ملك الموت ، فقد خصمك وإنه احتج عليك بحجة قوية . فلما قر قرار إدريس في الجنة ، وألزمه الله دخولها قبل الخلائق ، عجب الملائكة إلى ربهم فقالوا : ربنا خلقنا قبل إدريس بكذا وكذا ، ألف سنة ، ولم نعصك طرفة عين ، وإنما خلقت إدريس منذ أيام قلائل ، فأدخلته الجنة قبلنا ؟ فأوحى الله إليهم : يا ملائكتي ، إنما خلقتكم لعبادتي وتسبيحي وذكري ، وجعلت فيها لذتكم ، ولم أجعل لكم لذة في مطعم ولا مشرب ولا في شيء سواها ، وقوّيتكم عليها ، وجعلت في الأرض الزينة والشهوات واللذات والمعاصي والمحارم ، وأنه اجتنب ذلك كله من أجلي ، وآثر هواي على هواه ، ورضاي ومحبتي على رضاه ومحبته ، فمن أراد منكم أن يدخل مدخل إدريس فليهبط إلى الأرض ، فليعبدني بعبادة إدريس ، ويعمل بعمل إدريس ، فإن عمل مثل إدريس أدخله مدخل إدريس ، وإن غير أو بدل استوجب مدخل الظالمين .

فقالت الملائكة : ربنا لا نطلب ثواباً ، ولا تصيبنا بعقاب ، رضينا بمكاننا منك يا رب ، وفضيلتك إيانا . وانتدب ثلاثة من الملائكة : هاروت وماروت ، وملك آخر رضوا به ، فأوحى الله إليهم : «أما إذا اجتمعتم على هذا فاحذروا إن نفعكم الحذر ، فإني أنذركم ، اعلموا أن أكبر الكبائر عندي أربع : - فما عملتم سواها غفرته لكم ، وإن عملتموها لم أغفر لكم » . قالوا وما هي ؟ قال : أن لا تعبدوا صنماً ولا تسفكوا دماً ولا تشربوا خمراً ولا تطؤوا محرماً . فهبطوا إلى الأرض على ذلك ، فكانوا في الأرض على مثل ما كان عليه إدريس : يقيمون أربعة أيام في سياحتهم ، وثلاثة أيام يعلمون الناس الخير ، ويدعونهم إلى عبادة الله تعالى وطاعته . حتى ابتلاهم الله بالزهرة ، وكانت من أجمل النساء . فلما نظروا إليها افتتنوا بها - أراد الله ولما سبق عليهم في علمه مع خذلان الله إياهم - فنسوا ما تقدم إليهم ، فسألوها نفسها . قالت لهم : نعم . ولكن لي زوج لا أقدر على ما تريدون مني إلا أن تقتلوه ، وأكون لكم . فقال بعضهم لبعض : إنا قد أمرنا أن لا نسفك دماً ، ولا نطأ محرماً ، ولكن نفعل هذا مع هذا ، ثم نتوب من هذا كله . فلما أحس الثالث بالفتنة ، عصمه الله من ذلك كله بالسماء فدخلها فنجا ، وأقام هاروت وماروت لما كتب عليهما ، فنشدا على زوجها فقتلاه . فلما أراداها ، قالت : لي صنم أعبده ، وأنا أكره معصيته وخلافه ، فإن أردتما ، فاسجدا له سجدة واحدة . فدعتهما الفتنة إلى ذلك ، فقال أحدهما لصاحبه : إنا قد أمرنا أن لا نسفك دماً ولا نطأ محرماً ، ولكنا نفعله ، ثم نتوب من جميعه ، فسجدوا لذلك الصنم . فلما أراداها قالت لهما : قد بقيت لي حاجة أخرى قالا : وما هي ؟ قالت : لي شراب لا يطيب لي من العيش إلا به . قالا : وما هو ؟ قالت : الخمر . فدعتهما الفتنة إلى ذلك ، فقال أحدهما لصاحبه : إنا قد أمرنا أن لا نشرب خمراً فقال الآخر : إنا قد أمرنا أن لا نسفك دماً ، ولا نطأ محرماً ، ولكنا نفعله ، ثم نتوب من جميعه .

فشربا الخمر . فلما أراداها قالت : قد بقيت لي حاجة أخرى . قالا : وما هي ؟ قالت : تعلماني الذي تعرجان به إلى السماء . فعلماها إياه ، فلما تكلمت به عرجت إلى السماء ، فلما انتهت إلى السماء مسخت نجماً ، فلما ابتليا بما ابتليا به ، عرجا إلى السماء ، فغلقت أبواب السماء دونهما ، وقيل لهما أن السماء لا يدخلها خطاء ، فلما منعا من دخول السماء ، وعلما أنهما قد افتتنا وابتليا ، عجا إلى الله بالدعاء والتضرع والابتهال ، فأوحى الله إليهما : حل عليكما سخطي ، ووجبت فيما تعرضتما ، واستوجبتما ، وقد كنتما مع ملائكتي في طاعتي وعبادتي ، حتى عصيتما فصرتما بذلك إلى ما صرتما إليه من معصيتي وخلاف أمري ، فاختارا إن شئتما عذاب الدنيا وإن شئتما عذاب الآخرة . فعلما أن عذاب الدنيا وإن طال فمصيره إلى زوال ، وأن عذاب الآخرة ليس له زوال ولا انقطاع ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما ببابل معلقين منكوسين مقرنين إلى يوم القيامة .

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند ، عن بعض أصحابه قال : كان ملك الموت صديقاً لإدريس عليه السلام ، فقال له إدريس يوماً : يا ملك الموت ، قال : لبيك . قال : أمتني ، فأرني كيف الموت ؟ قال له ملك الموت : سبحان الله يا إدريس ! ، إنما يفر أهل السماوات والأرض من الموت ، وتسألني أن أريك كيف الموت ؟ قال : إني أحب أن أراه ، فلما ألح عليه قال له : يا إدريس ، أنا عبد مملوك مثلك ، وليس إليّ من الأمر شيء . قال : فصعد ملك الموت فقال : رب إن عبدك سألني أن أريه الموت كيف هو ؟ قال الله له : فأمته . فقال له ملك الموت : يا إدريس ، إنما يفر الخلق من الموت ، قال : فأرني . فلما مات بقي ملك الموت لا يستطيع أن يرد نفسه إليه ، فقال : يا رب ، قد ترى ما إدريس فيه ؟ فرد الله إليه روحه ، فمكث ما شاء حياً ، ثم قال يا ملك الموت : أدخلني الجنة فأنظر إليها ؟ قال له : يا إدريس ، إنما أنا عبد مملوك مثلك ليس إليّ من الأمر شيء ، فألح عليه فقال ملك الموت : يا رب ، إن عبدك إدريس قد ألح عليّ فسألني أن أدخله الجنة فيراها ؟ وقد قلت له : إنما أنا عبد مثلك ، وليس إليّ من الأمر شيء . قال الله : فأدخله الجنة قال : إن الله علم من إدريس ما لا أعلم أنا ، فاحتمله ملك الموت فأدخله الجنة ، فكان فيها ما شاء الله ، فقال له ملك الموت : اخرج بنا . قال : لا . قال الله : { أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى } [ الصافات : 58 ] وقال الله : { وما هم منها بمخرجين } [ الحجرات : 48 ] وما أنا بخارج منها . قال ملك الموت : يا رب ، قد تسمع ما يقول عبدك إدريس . قال الله له : صدق عبدي هو أعلم منك ، فاخرج منها ودعه فيها .

فقال الله : { ورفعناه مكاناً علياً } .

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ، ورفعناه مكاناً علياً } [ مريم : 57 - 58 ] قال : كان إدريس أول نبي بعثه الله في الأرض . وإنه كان يعمل فيرفع عمله مثل نصف أعمال الناس ، ثم إن ملكاً من الملائكة أحبه فسأل الله أن يأذن له فيأتيه ، فأذن له فأتاه فحدثه بكرامته على الله فقال : يا أيها الملك ، أخبرني كم بقي من أجلي لعلي أجتهد لله في العمل . قال : يا إدريس ، لا يعلم هذا إلا الله . قال : فهل تستطيع أن تصعد بي إلى السماء ؟ ؛ فأنظر في ملك الله ؛ فأجتهد لله في العمل . قال : لا . إلا أن تشفع ، فتشفع فأمر به ، فحمله تحت جناحيه فصعد به حتى إذا بلغ السماء السادسة ، استقبل ملك الموت نازلاً من عند الله فقال : يا ملك الموت ، أين تريد ؟ قال : أقبض نفس إدريس . قال : وأين أمرت أن تقبض نفسه ؟ قال : في السماء السادسة . فذهب الملك ينظر إلى إدريس ، فإذا هو برجليه يخفقان قد مات ، فوضعه في السماء السادسة .