بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57)

{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } ، يعني : الجنة ؛ وقال مجاهد : يعني : في السماء الرابعة . قال : أخبرني الثقة بإسناده ، عن ابن عباس أنه سئل كعب الأحبار عن إدريس فقال كعب : إن إدريس كان رجلاً خياطاً ، وكان يقوم الليل ويصوم النهار ولا يفتر عن ذكر الله عز وجل ، وكان يكتسب فيتصدق بالثلثين . فأتاه ملك من الملائكة يقال له إسرافيل ، فبشره بالجنة وقال له : هل لك من حاجة ؟ قال : وددت أني أعلم إلى متى أجلي فأزداد خيراً . فقال له : ما أعلمه ، ولكن إن شئت حملتك إلى السماء . قال : فحمله إلى السماء ، فلقي ملك الموت ، فسأله عن أجله ، ففتح كتاباً معه فقال : لم يبق من أجلك إلا ست ساعات أو سبع ساعات ، وقال : أُمرتُ أن أقبض نفسك هاهنا ، فقبض نفسه في السماء ، فذلك ثوله : { رفعناه عليا } رفع مكانه .

وروى الكلبي ، عن زيد بن أسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن إدريس جد أبي نوح ؛ وكان أهل الأرض يومئذ بعضهم مؤمناً وبعضهم كافراً ، فكان يصعد لإدريس من العمل ما كان يصعد لجميع بني آدم ، فأحبه ملك الموت ، فاستأذن الله تعالى في خلته ، قال : فأذن له . قال : فهبط إليه في صورة غير صورته ، على صورة آدمي لكيلا يعرفه فقال : يا إدريس إني أحب أن أصحبك وأكون معك . فقال له إدريس : إنك لا تطيق ذلك . قال : أنا أرجو أن يقويني الله عز وجل على ذلك ، فكان معه يصحبه . وكان إدريس يسيح النهار كله صائماً ؛ فإذا جنّه الليل أتاه رزقه حيث يمسي ، فيفطر عليه ثم يحيي الليل كله . فساحا النهار كله صائمين ، حتى إذا أمسيا أتى إدريس رزقه فأكله ودعا الآخر ، فقال : لا والذي جعلك بشراً ما أشتهيه ، فيطعم إدريس ثم يستقبلا الليل بالصلاة . فإدريس تناله السآمة والفترة من الليل والآخر لا يسأم ولا يفتر ، فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا صائمين فساحا ، حتى إذا جنهما الليل أتى إدريس رزقه فجعل يطعم ودعا الآخر فقال : لا والذي جعلك بشراً ما أشتهيه فيطعم .

ثم استقبلا الليل كله فإدريس تناله السآمة والفترة والآخر لا يسأم ولا يفتر ، فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا اليوم الثالث صائمين ، فساحا فمرا على كرم قد أينع وطاب فقال : يا إدريس لو أنا أخذنا من هذا الكرم فأكلنا . فقال إدريس : ما أرى صاحبه فأشتريه منه وإني لأكره أن آخذ بغير ثمن . قال : فمضيا حتى مرا على غنم فقال : يا إدريس لو أخذنا من هذا الغنم شاة فأكلنا من لحمها فقال له إدريس : إنك معي منذ ثلاثة أيام ، فلو كنت آدمياً لطعمت ؛ وإني لأدعوك كل ليلة إلى الحلال فتأبى علي ، فكيف تدعوني إلى الحرام أن آخذه ؟ فبصحبة ما بيني وبينك إلا ما أنبأتني من أنت . قال : إنك ستعلم . قال : أخبرني من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت . ففزع حين قال أنا ملك الموت .

قال : فإني أسألك حاجة . قال : ما هي قال : أن تذيقني الموت . قال : ما لي من ذلك شيء وليس لك بد من أن تذوقه . قال : فإنه قد بلغني عنه شدة ؛ ولعلي أعلم ما شدته ، فأكون له أشد استعداداً . قال : فأوحى الله عز وجل إلى ملك الموت أن يقبض روحه ساعة ثم يرسله . قال : فقبض نفسه ساعة ثم أرسله ، فقال : كيف رأيت ؟ قال : لقد بلغني عنه شدة فلقد كان أشد مما بلغني عنه .

قال : فإني أسألك حاجة أُخرى . قال : ما هي ؟ قال : أحب أن تُريني النار . قال : ما لي من ذلك شيء ، ولكن سأطلب لك ، فإن قدرت عليه فعلت . فسأل ربه ، فأمره فبسط جناحه فحمله عليه ، حتى صعد به إلى السماء فانتهى به إلى باب من أبواب النار فدقه فقيل : من هذا ؟ فقال : ملك الموت . فقال : مرحباً بأمين الله عز وجل ، فهل أمرت فينا بشيء ؟ فقال : لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه النار ، فأحب أن تروها إياه . ففُتح منها بشيء ، فجاءت بأمر عظيم ، فخرّ إدريس مغشياً عليه ؛ فحمله ملك الموت وحبسه في ناحية حتى أفاق فقال له ملك الموت ؛ ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ، ولكن سألتني فأحببت أن أسعفك .

قال : فإني أسألك حاجة أخرى ، لا أسألك غيرها . قال : ما هي ؟ قال : أحب أن تريني الجنة . قال : ما لي من ذلك شيء ، ولكن سأطلب لك فإن قدرت عليه فعلت . فانطلق به إلى خزنة الجنة ، فدق باباً من أبوابها فقيل : من هذا ؟ فقال : أنا ملك الموت . فقالوا : مرحباً بأمين الله عز وجل ، هل أمرت فينا بشيء ؟ فقال : لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ، ولكن هذا إدريس سألني أن أريه الجنة فأحب أن تروها إياه . قال : ففتح له الباب فدخل فنظر إلى شيء لم ينظر مثله قط ، فطاف فيها ساعة ثم قال له ملك الموت : انطلق بنا فلنخرج . فانطلق إلى شجرة فتعلق بها ثم قال : والله لا أخرج ، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني . فقال ملك الموت : إنه ليس حينها ولا زمانها ، ولكن طلبت إليهم لترى ، فانطلق بنا . فأبى عليه فقبض الله ملكاً من الملائكة فقال له ملك الموت : اجعل هذا الملك حكماً بيني وبينك ؟ قال : نعم . قال الملك : ما هو يا ملك الموت ؟ فأخبره بالقصة ، ثم نظر الملك إلى إدريس قال : ما تقول يا إدريس ؟ قال : أقول إن الله يقول : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } [ آل عمران : 185 ] ويقول : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] وقد وردتها وقال لأهل الجنة : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] . فوالله لا أخرج منها حتى يكون الله عز وجل هو الذي يخرجني . قال : فسمع هاتفاً يقول : بإذني دخل وبإذني فعل فخل سبيله ، فذلك قوله عز وجل : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } »

أي الجنة ؛ ويقال : { ورفعناه } في القدر والمنزلة ، ويقال : { ورفعناه } في النبوة والعلم .