السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي} (96)

{ قال } السامري : مجيباً له { بصرت } من البصر والبصيرة { بما لم يبصروا به } أي : رأيت ما لم ير بنو إسرائيل ، وعرفت ما لم يعرفوا ، وقال ابن عباس : علمت ما لم يعلموا ، ومنه قولهم : رجل بصير ، أي : عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام ، فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب كما قال : { فقبضت } أي : فكان ذلك سبباً ؛ لأن قبضت { قبضة } أي : مرة من القبض أطلقها على المقبوض تشبيهاً للمفعول بالمصدر { من أثر } فرس ذلك { الرسول } أي : المعهود { فنبذتها } أي : في الحلي الملقى في النار ، أو في العجل { وكذلك } أي : وكما سولت لي نفسي أخذ أثره { سوَّلت } أي : حسنت وزينت { لي نفسي } نبذها في الحلي ، فنبذتها ، وكان منها ما كان ، ولم يدعني إلى ذلك داع ، ولا حملني عليه حامل غير التسويل .

تنبيه : كون المراد بالرسول جبريل عليه السلام هو ما عليه عامة المفسرين ، وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس ، واختلفوا في أنه كيف اختص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين الناس ، فقال ابن عباس في رواية الكلبي : إنما عرفه لأنه رباه في صغره ، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل ، فكانت المرأة إذا ولدت طرحت ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون ، فتأخذ الملائكة الولدان ويربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس ، فكان السامري ممن أخذه جبريل ، وجعل كف نفسه في فيه ، وارتضع منه العسل واللبن ، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فلما رآه عرفه ؛ قال ابن جريح : فعلى هذا قوله : { بصرت بما لم يبصروا به } يعني : رأيت ما لم يروه .

ومن فسر الإبصار بالعلم ، فهو صحيح ، ويكون المعنى : علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء ؛ قال أبو مسلم ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، فهاهنا وجه آخر ، وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : إن فلاناً يقفوا أثر فلان ، ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم ، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل ، قال : بصرت بما لم يبصروا به ؛ أي : عرفت أن الذي أنت عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ؛ أي : شيئاً من دينك ، فقذفته ؛ أي : طرحته ، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة ، وإنما أورد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا ، أو بماذا يأمر الأمير ، وأما ادعاؤه أن موسى رسول مع جحده وكفره .

فعلى مذهب من حكى الله فيه قوله : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر ، 6 ] ، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قال الرازي : وهذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا أنه مخالف للمفسرين ، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه :

أحدها : أنَّ جبريل عليه السلام ليس معهود باسم الرسول ، ولم يجرِ له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه ، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب .

وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار ، وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول ، والإضمار خلاف الأصل . r

وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته ، وكيف عرف أن تراب حافر فرسه له هذا الأثر ، والذي ذكروه من أن جبريل هو الذي رباه فبعيد ؛ لأن السامري إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى نبّي صادق ، فكيف يحاول الإضلال ، وإن كان ما عرفه حال البلوغ ، فأنى ينفعه كون جبريل مر بباله حال الطفولية في حصول تلك المعرفة .