السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّـٰٓئِمِينَ وَٱلصَّـٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّـٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّـٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا} (35)

وعن مقاتل قال : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم :«ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نخشى أن لا يكون فيهن خير » فأنزل الله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } أي : الداخلين في الإسلام المنقادين لحكم الله في القول والعمل .

ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط أتبعه المحقق له ، وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكن الجامعين لهذه الأوصاف في كل وصف منها : { والمؤمنين والمؤمنات } أي : المصدقين بما يجب أن يصدق به . ولما كان المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال : { والقانتين والقانتات } أي : المخلصين في إيمانهم وإسلامهم المداومين على الطاعة . ولما كان القنوت قد يطلق على الإخلاص المقتضي للمداومة ، وقد يطلق على مطلق الطاعة قال : { والصادقين والصادقات } أي : في ذلك كله من قول وعمل . ولما كان الصدق وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه قد لا يكون دائماً قال مشيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع : { والصابرين والصابرات } أي : على الطاعات وعن المعاصي . ولما كان الصبر قد يكون سجية دل على صرفه إلى الله بقوله تعالى : { والخاشعين والخاشعات } أي : المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم . ولما كان الخشوع والخضوع والإخبات والسكون لا يصح مع توفير المال ، فإنه سكون إليه قال معلماً : إنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته { والمتصدقين والمتصدقات } بما وجب في أموالهم وبما استحب سراً وعلانية تصديقاً لخشوعهم . ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار أتبعه ما يعين عليه بقوله تعالى : { والصائمين والصائمات } أي : فرضاً ونفلاً للإيثار بالقوت وغير ذلك . ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها قال تعالى : { والحافظين فروجهم والحافظات } أي : عما لا يحل لهم . وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه ، والتقدير : والحافظاتها ، وكذلك والذاكرات ، وحسن الحذف رؤوس الفواصل .

ولما كان حفظ الفرج وسائر الأعمال لا يكاد يوجد إلا بالذكر ، وهو الذي يكون عند المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحببة للفناء قال تعالى : { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } أي : بقلوبهم وألسنتهم في كل حالة .

ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم ، وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «سبق المفردون قالوا : وما المفردون قال : «الذاكرون الله تعالى كثيراً والذاكرات » قال عطاء بن أبي رباح : من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } ومن أقر بأن الله تعالى ربه ، ومحمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله تعالى : { والمؤمنين والمؤمنات } ومن أطاع الله تعالى في الفرض ، والرسول صلى الله عليه وسلم في السنة فهو داخل في قوله تعالى : { والقانتين والقانتات } ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله تعالى : { والصادقين والصادقات } ومن صبر على الطاعات وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله تعالى : { والصابرين والصابرات } . ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله تعالى : { والخاشعين والخاشعات } ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله تعالى : { والمتصدقين والمتصدقات } ومن صام في كل شهر أيام البيض :الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله تعالى : { والصائمين والصائمات } ومن حفظ فرجه عن الحرام فهو داخل في قوله تعالى : { والحافظين فروجهم والحافظات } ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى : { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } { أعد الله } أي : الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يعاظمه شيء { لهم مغفرة } أي : لما اقترفوه من الصغائر لأنها مكفرات بفعل الطاعات ، والآية عامة وفضل الله تعالى واسع .

ولما ذكر تعالى الفضل بالتجاوز أتبعه الفضل بالكرم والرحمة بقوله تعالى : { وأجراً عظيما } أي : على طاعتهم ، والآية وعد لهن ولأمثالهن بالإثابة على الطاعة والتدرع بهذه الخصال ، وروي أن سبب نزول هذه الآية : «أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به ؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة ! فأنزل الله تعالى هذه الآية » .

روي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن : لا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : «يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار قال : ومم ذاك . قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال » فأنزل الله عز وجل هذه الآية . وقيل : لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء فنزلت .

تنبيه : عطف الإناث على الذكور لاختلاف جنسهما ، والعطف فيه ضروري لاختلافهما ذاتاً ، وعطف الزوجين وهو مجموع المؤمنين والمؤمنات على الزوجين ، وهو مجموع المسلمين والمسلمات لتغاير وصفيهما . وليس العطف فيه بضروري بخلافه في الأول ؛ لأن اختلاف الجنس أشد من اختلاف الصفة ، وفائدة العطف عند تغاير الأوصاف الدلالة على أن أعداد المعد من المغفرة والأجر العظيم أي : تهيئته للمذكورين للجمع بين هذه الصفات ، فصار المعنى : أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات العشر أعد الله تعالى لهم مغفرة وأجراً عظيماً .