إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (10)

{ دَعْوَاهُمْ } أي دعاؤُهم وهو مبتدأٌ وقوله عز وجل : { فِيهَا } متعلقٌ به وقوله تعالى : { سبحانك اللهم } خبرُه أي دعاؤهم هذا الكلامُ وهو معمولٌ لمقدر لا يجوز إظهارُه والمعنى اللهم إنا نسبّحك تسبيحاً ، ولعلهم يقولونه عندما عاينوا فيها من تعاجيبِ آثارِ قدرتِه تعالى ونتائجِ رحمتِه ورأفتِه ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر تقديساً لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصانِ وتنزيهاً لوعده الكريمِ عن سمات الخُلف { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا } التحيةُ التكرمةُ بالحالة الجليلة أصلُها أحياك الله حياةً طيبة ، أي ما يحيي به بعضُهم بعضاً أو تحيةُ الملائكةِ إياهم كما في قوله تعالى : { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام } أو تحيةُ الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رحِيمٍ } [ يس ، الآية 58 ] { سلام } أي سلامةٌ من كل مكروه { دعواهم فِيهَا } أي خاتمةُ دعائِهم { أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } أي أن يقولوا ذلك نعتاً له عز وجل بصفات الإكرام إثرَ نعتِه تعالى بصفات الجلال ، أي دعاؤهم منحصِرٌ فيما ذُكر إذ ليس لهم مطلبٌ مترقّبٌ حتى ينتظموا في سلك الدعاء ، وأن هي المخففةُ من أنّ المثقلة أصلُه أنه الحمدُ لله فحُذف ضميرُ الشأنِ كما في قوله : [ البسيط ] .

[ في فتنة كسيوف الهند قد علموا ] *** أنْ هالكٌ كلُّ من يحفى وينتعلُ{[382]} وقرىء أنّ الحمدَ لله بالتشديد ونصبِ الحمدُ ولعل توسيط ذكرِ تحيتِهم عند الحكايةِ بين دعائِهم وخاتمتِه للتوسل إلى ختم الحكايةِ بالتحميد تبرّكاً مع أن التحيةَ ليست بأجنبية على الإطلاق ، ودعوى كونِ ترتيبِ الوقوعِ أيضاً كذاك بأن كانوا حين دخلوا الجنةَ وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءَه مجدّوه ونعتوه بنعوت الجلالِ ثم حياهم الملائكةُ بالسلامة من الآفات والفوزِ بأصناف الكراماتِ أو حياهم بذلك ربُّ العزةِ فحمِدوه تعالى وأثنَوا عليه يأباها إضافةُ الآخرِ إلى دعواهم وقد جوز أن يكون المرادُ بالدعاء العبادةَ كما في قوله تعالى : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } [ مريم : 48 ] الخ ، إيذاناً بأنْ لا تكليفَ في الجنة أي ما عبادتُهم إلا أن يسبحوه ويحمَدوه وليس ذلك بعبادة إنما يُلْهمونه وينطِقونه تلذذاً ولا يساعده تعيينُ الخاتمة .


[382]:البيت للأعشى في ديوانه ص 109؛ والأزهية ص 64؛ والإنصاف ص 199؛ وتخليص الشواهد ص 382؛ وخزانة الأدب 5/426؛ وشرح أبيات سيبويه 2/76؛ والكتاب 2/137؛ ومغني اللبيب 1/314؛ والمقاصد النحوية 2/287؛ والمنصف 3/129.