إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِي وَمَا نُعۡلِنُۗ وَمَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ} (38)

{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } من الحاجات وغيرِها ، والمرادُ بما نُخفي ما يقابل ما نعلن سواءٌ تعلق به الإخفاءُ أو لا ، أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمَه تعالى متعلّقٌ بما لا يخطُر بباله مما فيه من الأحوال الخفية فضلاً عن إخفائه ، وتقديمُ ما نخفي على ما نعلن لتحقيق المساواةِ بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجهٍ فكأن تعلقه بما يخفى أقدمُ منه بما يُعلن ، أو لأن مرتبة السرِّ والخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة العلن إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو قبل ذلك خفيٌّ فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية ، وقصدُه عليه السلام أن إظهارَ هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غيرَ معلومةٍ لك ، بل إنما هو لإظهار العبوديةِ والتخشّعِ لعظمتك ، والتذلّل لعزتك ، وعرضِ الافتقارِ إلى ما عندك ، والاستعجالِ لنيل أياديك . وتكريرُ النداءِ للمبالغة في الضراعة والابتهال ، وضميرُ الجماعة لأن المرادَ ليس مجردَ علمِه تعالى بسرِّه وعلنه بل بجميع خفايا المُلك والملَكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض : { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الأرض وَلاَ في السماء } لما أنه العالمُ بالذات فما من أمر يدخُل تحت الوجود كائناً ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجودُه في ذاته علمٌ بالنسبة إليه سبحانه ، وإنما قال : وما يخفي على الله الخ ، دون أن يقول : ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقاً لما عناه بقوله : تعلم ما نخفي من أن علمَه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبةُ خفاءٍ بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقاتِ ، وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيءٍ ، أي من شيء كائنٍ فيهما ، أعمُّ من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما ، أو على وجه الجزئيةِ منهما أو يخفى ، وتقديمُ الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا ، والالتفاتُ من الخطاب إلى اسم الذاتِ المستجمعةِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلة الحُكمِ على نهج قوله تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك ، الآية 14 ] والإيذانِ بعمومه لأنه ليس بشأن يُختص به أو بمن يتعلق به ، بل شاملٌ لجميع الأشياء فالمناسبُ ذكرُه تعالى بعنوان مصحِّحٍ لمبدأ الكلّ ، وقيل : هو من كلام الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه : { وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل ، الآية 34 ] ومن للاستغراق على الوجهين .