إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

{ رَبَّنَا } آثر عليه السلام ضمير الجماعةِ لا لما قيل من تقدم ذكرِه وذكرِ بنيه وإلا لراعاه في قوله : ربَّ إنهن الخ ، لأن الدعاء المصدّرَ به وما أورده بصدد تمهيدِ مبادي إجابتهِ من قوله : { إني أَسْكَنتُ } الآية ، متعلقٌ بذريته فالتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخلُ في القبول وإجابةِ المسؤول { مِن ذريتي } أي بعضهم أو ذريةً من ذريتي فحُذف المفعولُ وهو إسماعيلُ عليه السلام وما سيولد له فإن إسكانَه حيث كان على وجه الاطمئنانِ متضمِّنٌ لإسكانهم . روي أن هاجرَ أمَّ إسماعيلَ عليه السلام كانت لسارة فوهبتْها من إبراهيمَ عليه السلام فلما ولدت له إسماعيلَ عليه السلام غارت عليهما فناشدته أن يُخرجَهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكةَ فأظهر الله تعالى عينَ زمزم { بِوَادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ } لا يكون فيه زرعُ أصلاً وهو وادي مكةَ شرفها الله تعالى { عِندَ بَيْتِكَ } ظرف لأسكنتُ ، كقولك : صليت بمكةَ عند الركنِ ، لا أنه صفةٌ لوادٍ أو بدل منه ، إذ المقصودُ إظهارُ كونِ ذلك الإسكان مع فقدان مباديه بالمرة لمحض التقربِ إلى الله تعالى والالتجاءِ إلى جواره الكريم كما ينبىء عنه التعرّضُ لعنوان الحرمةِ المؤذِنِ بعزة الملتجأ وعصمتِه عن المكاره في قوله تعالى : { المحرم } حيث حُرّم التعرضُ له والتهاونُ به أو لم يزل معظّماً ممنّعاً يهابه الجبابرةُ في كل عصر ، أو مُنع منه الطوفان فلم يستولِ عليه ولذلك سميَ عتيقاً ، وتسميتُه إذ ذاك بيتاً ولم يكن له بناءٌ وإنما كان نشْزاً مثلَ الرَّابية تأتيه السيول فتأخذ ذاتَ اليمين وذات الشمال ليست باعتبار ما سيؤول إليه الأمرُ من بنائه عليه السلام فإنه ينزِع إلى اعتبار عنوانِ الحرمة أيضاً كذلك بل إنما هي باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناءِ الكعبةِ المعظمةِ مما لا ريب فيه وإنما الاختلافُ في كمية عددِه وقد ذكرناها في سورة البقرة بفضل الله تعالى .

{ ربنا ليقيموا الصلاة } متوجّهين إليه متبرّكين به ، وهو متعلقٌ بأسكنتُ وتخصيصُها بالذكر من بين سائر شعائرِ الدينِ لفضلها ، وتكريرُ النداءِ وتوسيطُه لإظهار كمالِ العنايةِ بإقامة الصلاةِ والاهتمامِ بعرضِ أن الغرضَ من إسكانهم بذلك الوادي البلقعِ ذلك المقصدُ الأقصى والمطلب الأسنى ، وكلُّ ذلك لتمهيد مبادئ إجابة دعائِه وإعطاء مسؤولِه الذين لا يتسنى ذلك المرامُ إلا به ، ولذلك أُدخل عليه الفاء فقال : { فاجعل أَفْئِدَةً منَ الناس } أي أفئدةً من أفئدتهم ، فمن للتبعيض ، ولذلك قيل : لو قال : أفئدةَ الناسِ لازدحمت عليهم فارسُ والروم ، وأما ما زيد عليه من قولهم : ولَحجّت اليهودُ والنصارى فغيرُ مناسب للمقام إذ المسؤولُ توجيهُ القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهُها إلى البيت للحج ، وإلا لقيل : تهوي إليه ، فإنه عينُ الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى كما مر ، أو لابتداء الغاية كقولك : القلبُ منّي سقيمٌ أي أفئدةَ ناسٍ ، وقرئ آفدةً على القلب كآدر في أدؤر أو على أنه اسم فاعل من أفدت الرحلة أي عجِلت أي جماعةً من الناس وأفِدَةً بطرح الهمزة من الأفئدة أو على النعت من أفد { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم شوقاً ووِداداً ، وقرئ على البناء للمفعول من أهواه غيرُه وتهوى من باب علم أي تحبّ ، وتعديته بإلى لتضمُّنه معنى الشوقِ والنزوعِ وأولُ آثارِ هذه الدعوة ما روي أنه مرت رِفقةٌ من جُرهُم تريد الشامَ فرأوا الطيرَ تحوم على الجبل فقالوا : إن هذا الطائر لعائف على الماء فأشرفوا فإذا هم بهاجرَ ، فقالوا لها : إن شئت كنا معك وآنسناك والماءُ ماؤك فأذِنت لهم وكانوا معها إلى أن شبّ إسماعيلُ عليه السلام وماتت هاجرُ فتزوج إسماعيلُ منهم كما هو المشهور .

{ وارزقهم } أي ذريتي الذين أسكنتُهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس . وإنما لم يخصَّ الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُم بالله واليوم الآخر } [ البقرة ، الآية 126 ] اكتفاءً بذكر إقامة الصلاة { مِنَ الثمرات } من أنواعها بأن يَجعلَ بقرب منه قُرىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يوم واحد ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الطائفَ كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيمُ عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقاً للحرَم . وعن الزهري رضي الله عنه أنه تعالى نقل قرية من قرى الشامِ فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيمَ عليه السلام { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } تلك النعمةَ بإقامة الصلاةِ وأداءِ سائر مراسمِ العبودية ، وقيل : اللامُ في ليقيموا لامُ الأمرِ والمرادُ أمرُهم بإقامة الصلاة والدعاء من الله تعالى بتوفيقهم لها ولا يناسبه الفاء في قوله تعالى : { فاجعل } الخ ، وفي دعائه عليه السلام من مراعاة حسنِ الأدبِ والمحافظة على قوانين الضَّراعةِ وعرضِ الحاجة واستنزالِ الرحمةِ واستجلابِ الرأفة ما لا يخفى ، فإنه عليه السلام بذكر كونِ الوادي غيرَ ذي زرعٍ بيّن كمالَ افتقارِهم إلى المسؤول ، وبذكر كونِ إسكانِهم عند البيت المحرم أشار إلى أن جِوارَ الكريم يستوجب إفاضةَ النعيم ، وبعرض كونِ ذلك الإسكانِ مع كمال إعوازِ مرافقِ المعاش لمحض إقامةِ الصلاةِ وأداء حقوقِ البيت مهّد جميعَ مبادي إجابةِ السؤال ، ولذلك قُرنت دعوتُه عليه السلام بحُسنِ القبول .