إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (50)

{ وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } عطفٌ على المضمر الذي تعلَّق به قولُه تعالى : { بآيَةٍ } أي قد جئتُكم ملتبساً بآية الخ ومصدِّقاً لما بين يديَّ الخ أو على { رَسُولاً } على الأوجه الثلاثةِ فإن مصدِّقاً فيه معنى النُطقِ كما في رسولاً ، أي ويجعله مصدِّقاً ناطقاً بأني أُصَدِّق الخ أو ويقول :

«أُرسلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم » الخ و«مصدقاً » الخ أو حالَ كونه «مصدقاً بأني أُصدّق » الخ أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ دلَّ عليه «قد جئتُكم مصدقاً » الخ وقولُه : { مِنَ التوراة } إما حالٌ من الموصول والعاملُ { مُصَدّقاً } وإما من ضميره المستترِ في الظرف الواقعِ صلةً والعاملُ الاستقرارُ المُضْمرُ في الظرف أو نفسُ الظرف لقيامه مَقامَ الفعل { وَلأحِلَّ لَكُم } معمولٌ لِمُضمرٍ دل عليه ما قبله أي «وجئتكم لأُحِل » الخ وقيل : عطفٌ على معنى مصدقاً كقولهم : جئتُه معتذراً ولأجتلِبَ رضاه كأنه قيل : «قد جئتُكم لأصدِّق ولأحِل » الخ وقيل : عطفٌ على { بِآيَةٍ } أي «قد جئتُكم بآية من ربكم ولأُحِلَّ لكم » { بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام من الشحومِ والثُروبِ والسمكِ ولحومِ الإبلِ والعملِ في السبت ، قيل : أحَلَّ لهم من السمك والطير ما لا صئصئة له ، واختلف في إحلال السبت ، وقرئ حَرَّم على تسمية الفاعل وهو ما بين يديّ أو الله عز وجل ، وقرئ حَرُم بوزن كَرُم وهذا يدل على أن شرعَه كان ناسخاً لبعض أحكام التوراةِ ولا يُخِل ذلك بكونه مصدِّقاً لها لما أن النسخَ في الحقيقة بيانٌ وتخصيصٌ في الأزمان ، وتأخيرُ المفعول عن الجارِّ والمجرور لما مر مراراً من المبادرة إلى ذكر ما يسُرُّ المخاطَبين وللتشويق إلى ما أُخِّر { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ من رَّبّكُمْ } شاهدةٍ على صحة رسالتي وقرئ بآيات { فاتقوا الله } في عدم قَبولها ومخالفةِ مدلولها { وَأَطِيعُونِ } فيما آمرُكم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى وتلك الآية هي قولي : { إِنَّ الله رَبّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } فإنه الحقُّ الصريحُ الذي أجمع عليه الرسلُ قاطبةً فيكون آيةً بيِّنة على أنه عليه الصلاة والسلام من جملتهم وقرئ { أنَّ الله } بالفتح بدلاً من آية أي «قد جئتكم بآية على أن الله ربي وربُّكم » وقولُه : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراض ، والظاهرُ أنه تكريرٌ لما سبق ، أي «قد جئتكم بآية بعد آية مما ذكرتُ لكم من خلق الطير وإبراءِ الأكمهِ والأبرصِ والإحياءِ والإنباءِ بالخفيات وغيرِه من ولادتي بغير أبٍ ومن كلامي في المهد وغير ذلك » ، والأولُ لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رُتّب عليه بالفاء قولُه : { فاتقوا الله } أي «لِمَا جئتُكم بالمعجزات الباهرةُ والآياتِ الظاهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعونِ فيما أدعوكم إليه » . ومعنى قراءةِ من فتح : «ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه » كقوله تعالى : { لإيلاف قُرَيْشٍ } [ قريش ، الآية : 1 ] الخ ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال : { إِنَّ الله رَبّي وَرَبُّكُمْ } إشارةً إلى أن استكمالَ القوةِ النظريةِ بالاعتقاد الحقِّ الذي غايتُه التوحيدُ وقال : { فاعبدوه } إشارةً إلى استكمال القوةِ العمليةِ فإنه يلازِمُ الطاعة التي هي الإتيانُ بالأوامر والانتهاءُ عن المناهي ثم قرر ذلك بأن بيّن أن الجمعَ بين الأمرين هو الطريقُ المشهودُ له بالاستقامة ، ونظيرُه قوله عليه الصلاة والسلام : " قُلْ آمَنْتُ بالله ثم اسْتَقِمْ " .