إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ} (57)

وقوله تعالى : { قُلْ إِنّي على بَيّنَةٍ } تحقيقٌ للحق الذي عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبيانٌ لاتّباعه إياه إثرَ إبطالِ الذي عليه الكَفَرةُ وبيانِ عدمِ اتباعِه له ، والبينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل : هي الحججُ العقلية أو ما يعمُّها ، ولا يساعدُه المقامُ ، والتنوينُ للتفخيم ، وقولُه تعالى : { من ربّي } متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ ( لبينة ) مؤكّدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى ، وقولُه تعالى : { وَكَذَّبْتُم بِهِ } إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه ، جيء بها لاستقباح مضمونِها واستبعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البينة ، والضميرُ المجرورُ للبينة ، والتذكير باعتبار المعنى المرادِ ، والمعنى إني على بينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جمتلها الوعيدُ بمجيء العذاب ، وقولُه تعالى : { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } استئنافٌ مبينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها ، وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم : { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } [ سبأ ، الآية 29 ] بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه ، أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي { إِنِ الحكم } أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء ، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً { إِلاَ لِلَّهِ } وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه ، وقولُه تعالى : { يَقُصُّ الحق } أي يَتْبعُه ، بيانٌ لشؤونه تعالى في الحكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً ، أي لا يحكمُ إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير . وقرئ ( يقضي ) فانتصابُ ( الحقَّ ) حينئذٍ على المصدرية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم : قضى الدِّرعَ إذا صنعها ، وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ ، وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله ، مشيرٌ إلى أن قصَّ الحقِّ هاهنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بين الحقِّ والباطل ، هذا هو الذي تَسْتَدْعيه جزالةُ التنزيلِ . وقد قيل : إن المعنى إني ، من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه ، على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه . وأنت خبيرٌ بأن مساقَ النظم الكريمِ فيما سَبق وما لَحِق على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها ، فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقام أصلاً .