{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأ بعضهم : وَاعَدْنا بمعنى أن الله تعالى واعد موسى ملاقاة الطور لمناجاته ، فكانت المواعدة من الله لموسى ، ومن موسى لربه . وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة وَاعَدْنا على «وعدنا » أن قالوا : كل إيعاد كان بين اثنين للالتقاء أو الاجتماع ، فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك ، فلذلك زعموا أنه وجب أن يقضي لقراءة من قرأ : واعدنا بالاختيار على قراءة من قرأ «وعدنا » .
وقرأ بعضهم : «وعَدْنا » بمعنى أن الله الواعد موسى ، والمنفرد بالوعد دونه . وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك ، أن قالوا : إنما تكون المواعدة بين البشر ، فأما الله جل ثناؤه فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشرّ . قالوا : وبذلك جاء التنزيل في القرآن كله ، فقال جل ثناؤه : إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وقال : وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنها لَكُمْ قالوا : فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله : «وإذْ وَعَدْنا مُوسَى » .
والصواب عندنا في ذلك من القول ، أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القراء ، وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى ، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة . فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان ، وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع ، فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان ، مثل الذي وعده من ذلك صاحبه إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفاق منهما عليه . ومعلوم أن موسى صلوات الله عليه لم يَعِدْه ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك ، إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا ، وإلى محبته فيه مسارعا . ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك إلا وموسى إليه مستجيب . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الله عزّ ذكره قد كان وعد موسى الطور ، ووعده موسى اللقاء ، وكان الله عزّ ذكره لموسى واعدا ومواعدا له المناجاة على الطور ، وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء . فبأيّ القراءتين من «وعد » و«واعد » قرأ القارىء ، فهو الحقّ في ذلك من جهة التأويل واللغة ، مصيب لما وصفنا من العلل قبل .
ولا معنى لقول القائل : إنما تكون المواعدة بين البشر ، وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشرّ وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب والخير والشرّ والنفع والضرّ الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه ، لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه ولا يغيره عن معانيه . والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا من أن كل إيعاد كان بين اثنين فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه ومواعدة بينهما ، وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد ، وأن الوعد الذي يكون به الإنفراد من الواعد دون الموعود إنما هو ما كان بمعنى الوعد الذي هو خلاف الوعيد .
القول في تأويل قوله تعالى : مُوسَى .
وموسى فيما بلغنا بالقبطية كلمتان ، يعني بهما : ماء وشجر ، فمو : هو الماء ، وسا : هو الشجر . وإنما سُمي بذلك فيما بلغنا ، لأن أمه لما جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون وألقته في اليم كما أوحى الله إليها وقيل : إن اليم الذي ألقته فيه هو النيل دفعته أمواج اليم ، حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون ، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن ، فوجدن التابوت ، فأخذنه ، فسُمي باسم المكان الذي أصيب فيه . وكان ذلك المكان فيه ماء وشجر ، فقيل : موسى ماء وشجر : كذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط بن نصر ، عن السدي .
وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله ، فيما زعم ابن إسحاق .
حدثني بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : أرْبَعِينَ لَيْلَةً .
ومعنى ذلك وَإذْ وَاعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً بتمامها ، فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه : وإذْ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة أي رأس الأربعين ، ومثل ذلك بقوله : واسألِ القَرْيَةَ وبقولهم اليوم أربعون منذ خرج فلان ، واليوم يومان ، أي اليوم تمام يومين وتمام أربعين . وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل وخلاف ظاهر التلاوة ، فأما ظاهر التلاوة ، فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين ليلة ، فليس لأحد إحالة ظاهر خبره إلى باطن بغير برهان دالّ على صحته . وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره ، وهو ما :
حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قوله : وَإذْ وَاعَدْنا مُوسَى أرْبَعِينَ لَيْلَةً قالَ : يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة . وذلك حين خلف موسى أصحابه ، واستخلف عليهم هارون ، فمكث على الطور أربعين ليلة ، وأنزل عليه التوراة في الألواح ، وكانت الألواح من زبرجد . فقرّبه الربّ إليه نجيّا ، وكلمه ، وسمع صريف القلم . وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، قال : وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه ، ونجاه وقومه ثلاثين ليلة ، ثم أتمها بعشر ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة ، تلقاه ربه فيها بما شاء . واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل ، وقال : إني متعجل إلى ربي فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين فخرج موسى إلى ربه متعجلاً للقائه شوقا إليه ، وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامريّ يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي ، قال : انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل ، وواعدهم ثلاثين ليلة وأتمها الله بعشر .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمّ اتّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأنْتُمْ ظالِمُونَ .
وتأويل قوله : ثُمّ اتّخَذْتُمُ العجْلَ منْ بَعْدِهِ ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد . والهاء في قوله «من بعده » عائدة على ذكر موسى . فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل المكذّبين به المخاطبين بهذه الآية ، عن فعل آبائهم وأسلافهم وتكذيبهم رسلهم وخلافهم أنبياءهم ، مع تتابع نعمه عليهم وسبوغ آلائه لديهم ، معرّفهم بذلك أنهم من خلافهم محمدا صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وجحودهم لرسالته ، مع علمهم بصدقه على مثل منهاج آبائه وأسلافهم ، ومحذّرهم من نزول سطوته بهم بمقامهم على ذلك من تكذيبهم ما نزل بأوائلهم المكذّبين بالرسل من المسخ واللعن وأنواع النقمات .
حدثني به عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان ، فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق ، فلما رآها الحصان تقحّم خلفها . قال : وعرف السامريّ جبريل لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه ، فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه ، فيجد في بعض أصابعه لبنا ، وفي الأخرى عسلاً ، وفي الأخرى سمنا . فلم يزل يغذوه حتى نشأ ، فلما عاينه في البحر عرفه ، فقبض قبضة من أثر فرسه . قال : أخذ من تحت الحافر قبضة .
قال سفيان : فكان ابن مسعود يقرؤها : «فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول » . قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عباس : وألقي في رُوع السامري أنك لا تلقيها على شيء فتقول كن كذا وكذا إلا كان . فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر . فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر ، وأغرق الله آل فرعون ، قال موسى لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأصْلِحْ ومضى موسى لموعد ربه . قال : وكان مع بني إسرائيل حليّ من حليّ آل فرعون قد تعوّروه ، فكأنهم تأثموا منه ، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله ، فلما جمعوه ، قال السامريّ بالقبضة التي كانت في يده هكذا ، فقذفها فيه وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا وقال : كن عجلاً جسدا له خوار فصار عجلاً جسدا له خوار . وكان يدخل الريح في دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى . فعكفوا على العجل يعبدونه ، فقال هارون : يا قَوْمِ إنّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وإنّ رَبّكُمْ الرّحْمَنُ فاتّبِعُونِي وأطِيعُوا أمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَح عَلَيْهِ عاكِفينَ حتى يَرْجَعَ إلَيْنَا مُوسَى .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل يعني من أرض مصر أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الحليّ من القبط . فلما نجّى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر ، وغرق آل فرعون ، أتى جبريل إلى موسى يذهب به إلى الله ، فأقبل على فرس فرآه السامري ، فأنكره ، وقال : إنه فرس الحياة . فقال حين رآه : إن لهذا لشأنا . فأخذ من تربة الحافر حافر الفرس . فانطلق موسى ، واستخلف هارون على بني إسرائيل ، وواعدهم ثلاثين ليلة ، وأتمها الله بعشر . فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحل لكم ، وإن حليّ القبط إنما هو غنيمة ، فاجمعوها جميعا ، واحفروا لها حفرة فادفنوها ، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها ، وإلا كان شيئا لم تأكلوه . فجمعوا ذلك الحليّ في تلك الحفرة ، وجاء السامريّ بتلك القبضة ، فقذفها ، فأخرج الله من الحليّ عجلاً جسدا له خوار . وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى ، فعدّوا الليلة يوما واليوم يوما ، فلما كان تمام العشرين خرج لهم العجل فلما رأوه قال لهم السامري : هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ يقول : ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه . فعكفوا عليه يعبدونه . وكان يخور ويمشي ، فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل إنّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ يقول : إنما ابتليتم به يقول : بالعجل وإن ربكم الرحمن . فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم . وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه ، فلما كلمه قال له : وما أعجلَكَ عَنْ قَوْمكَ يا موسَى قالَ هُمْ أُولاءِ على أثَرِي وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبي لِتَرْضَى قال فإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ منْ بَعْدِكَ وأضَلّهُمُ السّامِري فأخبره خبرهم . قال موسى : يا ربّ هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل ، أرأيت الروح من نفخها فيه ؟ قال الرب : أنا . قال : ربّ أنت إذا أضللتهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، قال : كان فيما ذكر لي أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عزّ وجلّ به : استعيروا منهم يعني من آل فرعون الأمتعة والحليّ والثياب ، فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم . فلما أذن فرعون في الناس ، كان مما يحرّض به على بني إسرائيل أن قال : حين سار ولم يرضوا أن يخرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان السامري رجلاً من أهل باجَرْما ، وكان من قوم يعبدون البقر ، وكان حبّ عبادة البقر في نفسه ، وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل . فلما فضل هارون في بني إسرائيل وفصل موسى إلى ربه ، قال لهم هارون : أنتم قد حملتم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحليّا ، فتطهروا منها ، فإنها نجس . وأوقد لهم نارا ، فقال : اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها قالوا : نعم . فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة وذلك الحليّ ، فيقذفون به فيها ، حتى إذا تكسر الحليّ فيها ورأى السامريّ أثر فرس جبريل أخذ ترابا من أثر حافره ، ثم أقبل إلى النار فقال لهارون : يا نبيّ الله ألقي ما في يدي ؟ قال : نعم . ولا يظنّ هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحليّ والأمتعة . فقذفه فيها فقال : كن عجلاً جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة ، فقال : هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فعكفوا عليه ، وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط . يقول الله عز وجل : فَنَسِيَ أي ترك ما كان عليه من الإسلام ، يعني السامري ، أفَلا يَرَوْنَ أنْ لا يَرْجعُ إلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّا وَلا نَفْعا وكان اسم السامري موسى بن ظفر ، وقع في أرض مصر ، فدخل في بني إسرائيل . فلما رأى هارون ما وقعوا فيه : قالَ يا قَوْمِ إنّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فاتّبِعُونِي وأطِيعُوا أمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن ، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل . وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى : فَرّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي وكان له هائبا مطيعا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من فرعون ، وأغرق فرعون ومن معه ، قال موسى لأخيه هارون : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأصْلِحْ وَلا تَتّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ قال : لما خرج موسى وأمر هارون بما أمره به ، وخرج موسى متعجلاً مسرورا إلى الله . قد عرف موسى أن المرء إذا نجح في حاجة سيده كان يسرّه أن يتعجل إليه . قال : وكان حين خرجوا استعاروا حليا وثيابا من آل فرعون ، فقال لهم هارون : إن هذه الثياب والحليّ لا تحلّ لكم ، فاجمعوا نارا ، فألقوه فيها فأحرقوه قال : فجمعوا نارا . قال : وكان السامري قد نظر إلى أثر دابة جبريل ، وكان جبريل على فرس أنثى ، وكان السامري في قوم موسى . قال : فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة ، فيبست عليها يده فلما ألقى قوم موسى الحليّ في النار ، وألقى السامري معهم القبضة ، صوّر الله جل وعز ذلك لهم عجلاً ذهبا ، فدخلته الريح ، فكان له خوارٌ ، فقالوا : ما هذا ؟ فقال : السامري الخبيث : هذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ . . . الآية ، إلى قوله : حتى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى قال : حتى إذا أتى موسى الموعد ، قال الله : ما أعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسَى قالَ هُمْ أُولاَءِ على أثَرِي فقرأ حتى بلغ : أفَطالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : ثمّ اتّخَذْتُمْ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ قال : العجل حَسِيل البقرة . قال : حليّ استعاروه من آل فرعون ، فقال لهم هارون : أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريل ، فطرحه فيه فانسبك ، وكان له كالجوف تهوي فيه الرياح .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : إنما سمي العجل ، لأنهم عَجِلُوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحو حديث القاسم ، عن الحسن .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
وتأويل قوله وأنْتُمْ ظالِمُونَ يعني وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم ووضعا للعبادة في غير موضعها . وقد دللنا في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا أن أصل كل ظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
تذكير لهم بنعمة عفو الله عن جرمهم العظيم بعبادة غيره وذلك مما فعله سلفهم ، فإسناد تلك الأفعال إلى ضمير المخاطبين باعتبار ما عطف عليه من قوله : { ثم عفونا عنكم } فإن العفو عن الآباء منة عليهم وعلى أبنائهم يجب على الأبناء الشكر عليه كما تقدم عند قوله : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [ البقرة : 39 ، 46 ] .
ووقع في « الكشاف » و« تفسير البغوي » و« تفسير البيضاوي » أن الله وعد موسى أن يؤتيه الشريعة بعد أن عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد مهلك فرعون ، وهذا وهم فإن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر البتة بعد خروجهم ، كيف والآيات صريحة في أن نزول الشريعة كان بطورسينا وأن خروجهم كان ليعطيهم الله الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وقد أشار في « الكشاف » في سورة الدخان إلى التردد فيه ولا ينبغي التردد في ذلك .
وقوله : { ثم اتخذتم العجل من بعده } هو المقصود وأما ما ذكر قبله فهو تمهيد وتأسيس لبنائه وتهويل لذلك الجرم إظهاراً لسعة عفو الله تعالى وحلمه عنهم . وتوسيط التذكير بالعفو عن هذه السيئة بين ذكر النعم المذكورة مراعاة لترتيب حصولها في الوجود ليحصل غرضان غرض التذكير وغرض عرض تاريخ الشريعة .
والمراد من المواعدة هنا أمر الله موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاة الله تعالى وإطلاق الوعد على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة .
وقراءة الجمهور { وواعدنا } بألف بعد الواو على صيغة المفاعلة المقتضية حصول الوعد من جانبين الواعد والموعود والمفاعلة على غير بابها لمجرد التأكيد على حد سافر وعافاه الله ، وعالج المريض وقاتله الله ، فتكون مجازاً في التحقيق لأن المفاعلة تقتضي تكرر الفعل من فاعلين فإذا أخرجت عن بابها بقي التكرر فقط من غير نظر للفاعل ثم أريد من التكرر لازمه وهو المبالغة والتحقق فتكون بمنزلة التوكيد اللفظي . والأشهر أن المواعدة لما كان غالب أحوالها حصول الوعد من الجانبين شاع استعمال صيغتها في مطلق الوعد وقد شاع استعمالها أيضاً في خصوص التواعد بالملاقاة كما وقع في حديث الهجرة " وواعداه غار ثور " . وقول الشاعر :
فواعديه سَرْحَتَي مالك *** أو الرُّبا بينهما أسهلا
واستعملت هنا لأن المناجاة والتكلم يقتضي القرب فهو بمنزلة اللقاء على سبيل الاستعارة ولذلك استغني عن ذكر الموعود به لظهوره من صيغة المواعدة .
وقيل المفاعلة على بابها بتقدير أن الله وعد موسى أن يعطيه الشريعة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى ربه أن يمتثل لذلك ، فكان الوعد حاصلاً من الطرفين وذلك كاف في تصحيح المفاعلة بقطع النظر عن اختلاف الموعود به ، وذلك لا ينافي المفاعلة لأن مبنى صيغة المفاعلة حصول فعل متماثل من جانبين لا سيما إذا لم يذكر المتعلق في اللفظ كما هنا لقصد الإيجاز البديع لقصد إعظام المتعلق من الجانبين ، ولك أن تقول سوغ حذفه علم المخاطبين به فإن هذا الكلام مسوق للتذكير لا للإخبار والتذكير يكتفى فيه بأقل إشارة فاستوى الحذف والذكر فرجح الإيجاز وإن كان الغالب اتحاده .
وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب { وعدنا } بدون ألف عقب الواو على الحقيقة .
وموسى هو رسول الله إلى بني إسرائيل وصاحب شريعة التوراة ، وهو موسى بن عمران ولم يذكر اسم جده ولكن الذي جاء في التوراة أنه هو وأخوه هارون من سبط لاوى بن يعقوب . ولد بمصر في حدود سنة ألف وخمسمائة قبل ميلاد عيسى ولما ولدته أمه خافت عليه أن يأخذه القبط فيقتلوه لأنه في أيام ولادته كان القبط قد ساموا بني إسرائيل سوء العذاب لأسباب غير مشروعة كما تقدم عند قوله تعالى : { يذبحون أبناءكم } [ البقرة : 49 ] فأمر ملك مصر بقتل كل ذكر يولد في إسرائيل .
وأمه تسمى « يوحانذ » وهي أيضاً من سبط لاوى وكان زوجها قد توفي حين ولدت موسى فتحيلت لإخفائه عن القبط مدة ثلاثة أشهر ثم ألهمها الله فأرضعته رضعة ووضعته في سفط منسوج من خوص البردي وطلته بالمغرة والقار لئلا يدخله الماء ووضعت فيه الولد وألقته في النيل بمقربة من مساكن فرعون على شاطىء النيل ووكلت أختاً له اسمها مريم بأن ترقب الجهة التي يلقيه النيل فيها وماذا يصنع به ، وكان ملك مصر في ذلك الوقت تقريباً هو فرعون رعمسيس الثاني ، ولما حمله النهر كانت ابنة فرعون المسماة ثرموت مع جَوارٍ لها يمشين على حافة النهر لقصد السباحة والتبرد في مائه قيل كانوا في مدينة عين شمس فلما بصرت بالسفط أرسلت أمة لها لتنظر السفط فلما فتحنه وجدن الصبي فأخذته ابنة فرعون إلى أمها وأظهرت مريم أخت موسى نفسها لابنة فرعون فلما رأت رقة ابنة فرعون على الصبي قالت : إن فينا مرضعاً أفأذهب فأدعوها لترضعه ؟ فقالت : نعم فذهبت وأتت بأم موسى . وأخذت امرأة فرعون الولد وتبنته وسمته موشى قيل : إنه مركب من كلمة « مو » بمعنى الماء وكلمة « شى » بمعنى المنقَذ وقد صارت في العربية موسى والأظهر أن هذا الاسم مركب من اللغة العبرية لا من القبطية فلعله كان له اسم آخر في قصر فرعون وأنه غير اسمه بعد ذلك .
ونشأ موسى في بيت فرعون كولد له ولما كبر علم أنه ليس بابن لفرعون وأنه إسرائيلي ولعل أمه أعلمته بذلك وجعلت له أمارات يوقن بها وأنشأه الله على حب العدل ونصر الضعيف وكان موسى شديداً قوي البنية ولما بلغ أشده في حدود نيف وثلاثين من عمره حدث له حادث قتل فيه قبطياً انتصاراً لإسرائيلي ولعل ذلك كان بعد مفارقته لقصر فرعون أي بعد موت مربيه فخاف موسى أن يقتص منه وهاجر من مصر ومر في مهاجرته بمدين وتزوج ابنة شعيب ثم خرج من مدين بعد عشر سنين وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة .
وأوحى الله إليه في طريقه أن يخرج بني إسرائيل من مصر وينقذهم من ظلم فرعون فدخل مصر ولقي أخاه هارون في جملة قومه في مصر وسعى في إخراج بني إسرائيل من مصر بما قصه الله في كتابه وكان خروجه ببني إسرائيل من مصر في حدود سنة 1460 ستين وأربعمائة وألف قبل المسيح في زمن منفطاح الثاني وتوفي موسى عليه السلام قرب أريحا على جبل نيبو سنة 1380 ثمانين وثلاثمائة وألف قبل ميلاد عيسى ودفن هنالك وقبره غير معروف لأحد كما هو نص التوراة .
وقوله : { أربعين ليلة } انتصب على أنه ظرف لمتعلق { واعدنا } وهو اللقاء الموعود به ناب هذا الظرف عن المتعلق أي مناجاة وغيرها في أربعين ليلة إن جعل { واعدنا } مسلوب المفاعله وإن أبقي على ظاهره قدرنا متعلقين وعلى كلا التقديرين فانتصاب ( أربعين ) على الظرفية لذلك المحذوف على أن إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه مجاز شائع في كلام البلغاء ومنه { واتقوا يوماً لا تجزي نفس } [ البقرة : 47 ] كما تقدم والأمور التي اشتملت عليها الأربعون ليلة معلومة للمخاطبين يتذكرونها بمجرد الإلماع إليها .
وبما حررناه في قوله : { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } تستغني عن تطويلات واحتمالات جرت في كلام الكاتبين هنا من وجوه ذكرها التفتزاني وعبد الحكيم وقد جمع الوجه الذي أبديناه محاسنها . وجعل الميقات ليالي لأن حسابهم كان بالأشهر القمرية .
وعطفت جملة { اتخذتم العجل من بعده } بحرف { ثم } الذي هو في عطف الجمل للتراخي الترتيبي للإشارة إلى ترتيب في درجات عظم هذه الأحوال وعطف { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } أيضاً لتراخي مرتبة العفو العظيم عن عظيم جرمهم فروعي في هذا التراخي أن ما تضمنته هذه الجمل عظائم أمور في الخير وضده تنبيهاً على عظم سعة رحمة الله بهم قبل المعصية وبعدها ، وحذف المفعول الثاني لاتخذتم لظهوره وعلمهم به ولشناعة ذكره وتقديره معبوداً أو إلهاً وبه تظهر فائدة ذكر { من بعده } لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي تزيدهم كمالاً لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم الله تعالى وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد أن رأوا معجزاته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له : { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } [ الأعراف : 138 ] الآية .
وفائدة ذكر { من } للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليه السلام وهذه أيضاً حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد طول المغيب على أنه ضعف في العهد كما قال الحرث بن كلدة :
فما أدري أغيَّرهم تناءٍ *** وطول العهد أم مالٌ أصابوا
ففي قوله : { من بعده } تعريض بقلة وفائهم في حفظ عهد موسى .
وقوله : { من بعده } أي بعد مغيبه وتقدير المضاف مع بعد المضاف إلى اسم المتحدث عنه شائع في كلام العرب لظهوره بحسب المقام وإذا لم يكن ما يعنيه من المقام فالأكثر أنه يراد به بعد الموت كما في قوله تعالى : { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } [ غافر : 34 ] وقوله : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى } [ البقرة : 245 ] .
وإنما اتخذوا العجل تشبهاً بالكنعانيين الذين دخلوا إلى أرضهم وهم الفنيقيون سكان سواحل بلاد الشام فإنهم كانوا عبدة أوثان وكان العجل مقدساً عندهم وكانوا يمثلون أعظم الآلهة عندهم بصورة إنسان من نحاس له رأس عجل جالس على كرسي ماداً ذراعيه كمتناول شيء يحتضنه وكانوا يحمونه بالنار من حفرة تحت كرسيه لا يتفطن لها الناس فكانوا يقربون إليه القرابين وربما قربوا له أطفالهم صغاراً فإذا وضع الطفل على ذراعيه اشتوى فظنوا ذلك أمارة قبول القربان فتباً لجهلهم وما يصنعون . وكان يسمى عندهم « بعلا » وربما سموه « مولوك » وهم أمة سامية لغتها وعوائدها تشبه في الغالب لغة وعوائد العرب فلما مر بهم بنو إسرائيل قالوا لموسى { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] فانتهرهم موسى وكانوا يخشونه فلما ذهب للمناجاة واستخلف عليهم هارون استضعفوه وظنوا أن موسى هلك فاتخذوا العجل الذي صنعوه من ذهب وفضة من حليهم وعبدوه .
وقوله : { وأنتم ظالمون } حال مقيدة لاتخذتم ليكون الاتخاذ مقترناً بالظلم من مبدئه إلى منتهاه وفائدة الحال الإشعار بانقطاع عذرهم فيما صنعوا وأن لا تأويل لهم في عبادة العجل أو لأنهم كانوا مدة إقامتهم بمصر ملازمين للتوحيد محافظين على وصية إبراهيم ويعقوب لذريتهما بملازمة التوحيد فكان انتقالهم إلى الإشراك بعد أن جاءهم رسول انتقالاً عجيباً . فلذلك كانوا ظالمين في هذا الصنع ظلماً مضاعفاً فالظاهر أن ليس المراد بالظلم في هاته الآية الشرك والكفر وإن كان من معاني الظلم في اصطلاح القرآن لظهور أن اتخاذ العجل ظلم فلا يكون للحال معه موقع . وقد اطلعت بعد هذا على « تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي » فوجدته قال : { وأنتم ظالمون } أي لا شبهة لكم في اتخاذه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ بعضهم: وَاعَدْنا بمعنى أن الله تعالى واعد موسى ملاقاة الطور لمناجاته، فكانت المواعدة من الله لموسى، ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة وَاعَدْنا على «وعدنا» أن قالوا: كل إيعاد كان بين اثنين للالتقاء أو الاجتماع، فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك، فلذلك زعموا أنه وجب أن يقضي لقراءة من قرأ: واعدنا بالاختيار على قراءة من قرأ «وعدنا».
وقرأ بعضهم: «وعَدْنا» بمعنى أن الله الواعد موسى، والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك، أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر، فأما الله جل ثناؤه فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشرّ. قالوا: وبذلك جاء التنزيل في القرآن كله، فقال جل ثناؤه:"إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ" وقال: "وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنها لَكُمْ "قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله: «وإذْ وَعَدْنا مُوسَى».
والصواب عندنا في ذلك من القول، أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القراء، وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان...
ومعنى ذلك وَإذْ وَاعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً بتمامها، فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد.
" ثُمّ اتّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأنْتُمْ ظالِمُونَ".
"ثُمّ اتّخَذْتُمُ العجْلَ منْ بَعْدِهِ": ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. والهاء في قوله «من بعده» عائدة على ذكر موسى. فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل المكذّبين به المخاطبين بهذه الآية، عن فعل آبائهم وأسلافهم وتكذيبهم رسلهم وخلافهم أنبياءهم، مع تتابع نعمه عليهم وسبوغ آلائه لديهم، معرّفهم بذلك أنهم من خلافهم محمدا صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وجحودهم لرسالته، مع علمهم بصدقه على مثل منهاج آبائه وأسلافهم، ومحذّرهم من نزول سطوته بهم بمقامهم على ذلك من تكذيبهم ما نزل بأوائلهم المكذّبين بالرسل من المسخ واللعن وأنواع النقمات...
وتأويل قوله: "وأنْتُمْ ظالِمُونَ" يعني وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم ووضعا للعبادة في غير موضعها.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
وهذا تنبيه على أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان فرق البحر للإبقاء البدني، وكان إنزال الكتاب للإبقاء الديني عقبه به، وكان الطبع السليم والمزاج المستقيم يقتضي إحسان العمل زمن المواعدة واستعطاف المواعدة والترفق له والتملق بما تحقق الرجاء في إنجاز وعده، لا سيما بعد بليغ إحسانه بالإنجاء من العدو وإهلاكه؛ نعى عليهم عملهم بخلاف ذلك بقوله: {وإذ}.
وقال الحرالي: لما ذكّرهم تعالى بأمر الوفاء بالعهد الذي هو خاتمة أمرهم وبالتفصيل الذي كان بادية أمرهم، نظم ذلك بالأمر المتوسط بين الطرفين الذي أعلاه مواعدة موسى عليه السلام ربه الذي النعمة عليه نعمة عليهم، فقال: وإذ {واعدنا} من الوعد وهو الترجية بالخير، وواعدنا من المواعدة وهي التقدم في اللقاء والاجتماع والمفاوضة ونحوه.
{أربعين ليلة}: وخص الليل بالذكر إشارة إلى أن ألذ المناجاة فيه، وإلى أنه لا نوم في تلك المدة بل المناجاة عامة لليلها ونهارها...
ولما كانت الأنفس الأبيّة والهمم العلية تقتضي النفرة من الظالم والأنفة من كل ما ينسب إليه ويذكّر به، وكانوا قد اتخذوا من آثار آل فرعون من حليهم ما دخلوا في رقه وعبوديته، وكانت مشاهدتهم لما رأوا من الآيات مقتضية لغاية البعد من الكفر؛ عبر عن مواقعتهم له بثم فقال: {ثم اتخذتم}، قال الحرالي: من الاتخاذ وهو افتعال مما منه المواخذة كأنه الوخذ، وهو تصيير في المعنى نحو الأخذ في الحس، وفيه تكلف.
{العجل} وذكر في هذا التقرير أصل المواعدة وذكر الميقات وتجاوز الخطاب ما بعد ذلك من مهل حسب ما تفهمه كلمة ثم، فاقتضى إفهام ذلك ما نالوه من الخير، ثم تعقبوا ذلك بالتزام عادتهم في معاودة ما اعتادوه من أعمالهم إلى أدنى عمل من لا عقل له ولا بقية نظر له من اتخاذ جسد عجل إلهاً بعد معرفة آثار الإلهية على الغيب، ففيه تعجيب من أن موسى عليه السلام إنما واعده الله بالمناجاة بعد ميقات أربعين صوماً ونسكاً وتحنثاً وانقطاعاً إلى ربّه، ثم يرون هم أنهم شهدوا الإله مصوراً محسوساً على أن موسى الذي ناجاه ربّه منع الرؤية فكيف بهم وذلك هو ظلمهم، فوضعوا الإله محل الشيء المحسوس، وهو تعالى قد تعالى عن أن يراه صفيه الذي ناجاه في دنياه وإنما ناجاه بعد ميقاته، وهم يهمون في تألّه مرئي من غير مواعدة ولا اختصاص! وفي قوله تعالى {من بعده} أي من بعد إتيانه لميعادنا إضمار لذكر موسى عليه السلام، تقريراً لما كان ينبغي أن يكونوا عليه من الارتقاب لما يأتيهم به موسى من فوائد المناجاة، كما يكون من تعلق قلبه بمن هو قدوته، والبعد بعد عن حد يتخذ مبدأ ليكون سابقه قبل ولاحقه بعد -انتهى.
{وأنتم ظالمون} فاعلون فعل من هو في أظلم الظلام بعد أنجاءكم موسى بالنور المبين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام بعد أن قرر نعمة الإنجاء من استعباد الظالمين، والبعد من فتنة القوم الضالين: ذكر النعمة التي وليتها، وذكرهم بما كان من كفرهم إياها، فقال {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة}. وقد كانت هذه المواعدة لإعطائه التوراة. ولما ذهب لميقات ربه استبطئوه فاتخذوا عجلا من ذهب فعبدوه كما هو مفصل في غير هذه السورة... والمراد هنا التذكير بالنعمة وبيان كفرها، ليظهر أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاندته ليس ببدع من أمرهم، وإنما هو معهود منهم مع رؤية الآيات وبعد إغلاق النعم عليهم، ولذلك اكتفى بالإشارة إليه بقوله {ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} أي اتخذتموه إلها ومعبودا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل، وعبادته في غيبة موسى -عليه السلام- عندما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل، مفصلة في سورة طه السابقة النزول في مكة. وهنا فقط يذكرهم بها، وهي معروفة لديهم. يذكرهم بانحدارهم إلى عبادة العجل بمجرد غيبة نبيهم، الذي أنقذهم باسم الله، من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب. ويصف حقيقة موقفهم في هذه العبادة: (وأنتم ظالمون).. ومن أظلم ممن يترك عبادة الله ووصية نبيه ليعبد عجلا جسدا، وقد أنقذه الله ممن كانوا يقدسون العجول! ومع هذا فقد عفا الله عنهم.
بنو إسرائيل عندما كانوا في مصر.. وكانوا يخدمون نساء آل فرعون.. أخذوا منهن بعض الحلي والذهب خلسة.. ومع أن فرعون وقومه متمردون على الله تبارك وتعالى.. فإن هذا لا يبرر سرقة حلي نسائهم.. فنحن لا نكافئ من عصى الله فينا بأن نعصي الله فيه.. ونصبح متساويين معهم في المعصية.. ولكن نكافئ من عصى الله فينا بأن نطيع الله فيه..
وأبو الدرداء رضي الله عنه حينما بلغه أن شخصا سبه.. بعث له كتابا قال فيه.. يا أخي لا تسرف في شتمنا.. واجعل للصلح موضعا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.. بنو إسرائيل سرقوا بعض حلي نساء آل فرعون.. فجعلها الله فتنة لإغوائهم.. وزين لهم الشيطان أن يصنعوا منه عجلا يعبدونه.. صنعه لهم موسى السامري الذي رباه جبريل.. فأخذ الحلي وصهرها ليجعلها في صورة عجل له خوار.. وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى. أتعرف لماذا فتنهم الله سبحانه وتعالى بالعجل؟
لأن الذهب المصنوع منه العجل من أصل حرام.. والحرام لا يأتي منه خير مطلقا.. ولابد أن نأخذ العبرة من هذه الواقعة.. وهي أن الحرام ينقلب على صاحبه شراً ووبالا، إن كان طعامك حراما يدخل في تكوين خلاياك ويصح في جسدك الحرام.. فإذا دخل الحرام إلى الجسد يميل فعلك إلى الحرام.. فالحرام يؤرق الجسد ويسوقه إلى المعاصي..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى أكبر انحراف أصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الانحراف عن مبدأ التوحيد، والاتجاه إلى عبادة العجل. وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: