جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا} (98)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هََذَا رَحْمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً } .

يقول عزّ ذكره : فلما رأى ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بني من الردم ، ولا يقدرون عل نقبه ، قال : هذا الذي بنيته وسوّيته حاجزا بين هذه الأمة ، ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون الردم من الناس ، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم .

وقوله : فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ يقول : فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم ، جعله دكاء ، يقول : سوّاه بالأرض ، فألزقه بها ، من قولهم : ناقة دكاء : مستوية الظهر لا سنام لها . وإنما معنى الكلام : جعله مدكوكا ، فقيل : دكاء . وكان قتادة يقول في ذلك ما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإذَا جاءَ وَعدُ رَبي جَعَلَه دَكّاءَ قال : لا أدري الجبلين يعني به ، أو ما بينهما .

وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجال . ذكر من قال ذلك :

حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا العوّام ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر ، وهو ابن عفارة العبدي ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقِيتُ لَيْلَةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعيسَى فَتَذَاكرُوا أمْر السّاعَةِ ، وَرَدّوا الأَمْرَ إلى إبْرَاهِيمَ فَقالَ إبْرَاهِيمُ : لا عِلْمَ لي بِها ، فَرَدّوا الأمْرَ إلى مُوسَى ، فقالَ مُوسَى : لا عِلْمَ لي بها ، فَرَدّوا الأَمْرَ إلى عِيسَى قالَ عِيسَى : أمّا قِيامُ السّاعَةِ لا يَعْلَمُهُ إلاّ اللّهُ ، وَلَكِنّ رَبّي قَدْ عَهِدَ إليّ بِمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها ، عَهِدَ إليّ أنّ الدّجّالَ خارجٌ ، وأنّهُ مُهْبطي إلَيْه ، فَذَكَرَ أنّ مَعَهُ قَصَبَتَيْنِ ، فإذَا رآنِي أهْلَكَهُ اللّهُ ، قالَ : فَيَذُوبُ كمَا يَذُوبُ الرّصَاصُ ، حتى إنّ الحَجَرَ والشّجَرَ لَيَقُولُ : يا مُسْلِمُ هَذَا كافِرٌ فاقْتُلْهُ ، فَيُهْلِكُهُمْ اللّهُ ، وَيَرْجِعُ الناسُ إلى بِلادِهِمْ وأوْطانِهِمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجَ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُونَ ، لا يَأْتُونَ عَلى شَيْءٍ إلاّ أكَلُوهُ ، وَالا يَمُرّونَ عَلى ماءِ إلاّ شَرِبُوهُ ، فيَرّجِعُ النّاسُ إليّ ، فَيَشْكُونَهُمْ ، فأدْعُوا اللّهَ عَلَيْهِمْ فَيُمِيتُهُمْ حتى تَجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمُ ، فَيَنْزِلُ المَطَرُ ، فَيَجُرّ أجْسادَهُمْ ، فيُلْقِيهِمْ فِي البَحْرِ ، ثُمّ يَنْسِفُ الجِبالَ حتى تَكُونَ الأرْضُ كالأديم ، فَعَهِدَ إليّ رَبّي أنّ ذلكَ إذا كان كذلك ، فَإنّ السّاعَةَ مِنْهُمْ كالحامِلِ المُتِمّ الّتِي لا يَدْرِي أهْلُها مَتى تَفْجَوهُمْ بِوِلادِها ، لَيْلاً أوْ نَهارا » .

حدثني عبيد بن إسماعيل ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن أصبع بن زيد ، عن العوّام بن حوشب ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفازَة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لما أُسْري برسول الله صلى الله عليه وسلم التقي هو وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام . فتذاكروا أمر الساعة . فذكر نحو حديث إبراهيم الدورقي عن هشيم ، وزاد فيه : قال العوّام بن حوشب : فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ، قال الله عزّ وجلّ : حتى إذَا فُتِحَتْ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقّ فإذَا هِيَ شاخِصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا وقال : فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وكانَ وَعْدُ رَبّي حَقّا يقول : وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دكّ هذا الردم ، وخروج هؤلاء القوم على الناس ، وعيثهم فيه ، وغير ذلك من وعده حقا ، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا} (98)

وقوله { هذا رحمة } الآية القائل : ذو القرنين ، وأشار بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به ، وقرأ ابن أبي عبلة » هذه رحمة « ، و » الوعد « : يحتمل أن يريد به يوم القيامة ، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر » دكاً «مصدر دك يدك إذا هدم ورض ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي » دكاء «بالمد ، وهذا على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها ، وفي الكلام حذف تقديره جعله مثل دكاء ، وأما النصب في { دكاً } فيحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً ل » جعل « ، ويحتمل أن يكون » جعل «بمعنى خلق ، وينصب { دكاً } على الحال ، وكذلك أيضاً النصب في قراءة من مد يحتمل الوجهين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا} (98)

جملة { قال هذا رحمة من ربي } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء حكاية وصف الردم كان ذلك مثيراً سؤال من يسأل : ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم ؟ فيجاب بجملة : { قال هذا رحمة من ربي } .

والإشارة بهذا إلى الرّدم ، وهو رحمة للناس لما فيه من ردّ فساد أمّة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة .

و ( من ) ابتدائية ، وجعلت من الله لأنّ الله ألهمه لذلك ويسرّ له ما هو صعب .

وفرع عليه { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً } نطقاً بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال . ولأنه علم أن عملاً عظيماً مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام ، وعلم أنّ ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيص منه لكلّ ذي سلطان .

والوعد : هو الإخبار بأمر مستقبل . وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم ، فاستعار له اسم الوعد . ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيئاً أو ألهمه إن كان صالحاً أن لذلك الردم أجلاً معيناً ينتهي إليه .

وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم « فُتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا ، وعقد بين أصبعيه الإبهام والسبابة » كما تقدم .

والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة ، أي جعله مدكوكاً ، أي مسوّى بالأرض بعد ارتفاع . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف { جَعلهُ دَكّاءَ } بالمد . والدكاء : اسم للناقة التي لا سنام لها ، وذلك على التشبيه البليغ .

وجملة { وكان وعد ربي حقاً } تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و { لكل أمة أجل } [ يونس : 49 ] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقاً ثابتاً لا يتخلف . وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلاً بديعاً .