جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تَكُونَ فتنةٌ يعني : حتى لا يكون شرك بالله ، وحتى لا يعبد دونه أحد ، وتضمحل عبادة الأوثان والاَلهة والأنداد ، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان كما قال قتادة فيما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون شرك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون شرك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : الشرك ويَكُونَ الدّينُ لِلّهِ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : أما الفتنة : فالشرك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول : قاتلوا حتى لا يكون شرك .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَقَاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُون فِتْنَةٌ أي شرك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون كفر ، وقرأ : تُقاتِلُوَنُهمْ أوْ يُسْلِمُونَ .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول : شرك .

وأما الدين الذي ذكره الله في هذا الموضع فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه ، من ذلك قول الأعشى :

هُوَ دَانَ الرّبابَ إذْ كَرِهُوا الدّينَ دِرَاكا بغزْوَةٍ وصِيال

يعني بقوله : إذ كرهوا الدين : إذ كرهوا الطاعة وأبوها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ويَكُونَ الدّين للّهِ يقول : حتى لا يعبد إلا الله ، وذلك لا إله إلا الله ، عليه قاتل النبيّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أُمِرْتُ أنْ أُقُاتِلَ النّاسَ حّتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ الله ، ويقِيمُوا الصّلاةَ ، ويُؤْتُوا الزّكاةَ ، فإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مّني دِماءَهُمْ وأمْوالَهُمْ إلاّ بِحَقّها وَحِسابهُمْ على اللّهِ » .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ويَكُونَ الدّينُ لِلّهِ أن يقال : لا إله إلا الله . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ أمَرَنِي أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حّتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ الله » . ثم ذكر مثل حديث الربيع .

القول في تأويل قوله تعالى : { فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ . }

يعني تعالى ذكره بقوله : فإنِ انْتَهَوْا : فإن انتهى الذين يقاتلونكم منَ الكفار عن قتالكم ، ودخلوا في ملتكم ، وأقرّوا بما ألزمكم الله من فرائضه ، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان ، فدعوا الاعتداء عليهم وقتالهم وجهادهم ، فإنه لا ينبغي أن يعتدى إلا على الظالمين وهم المشركون بالله ، والذين تركوا عبادته وعبدوا غير خالقهم .

فإن قال قائل : وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ ؟ قيل : إن المعنى في ذلك غير الوجه الذي ذهبتَ ، وإنما ذلك على وجه المجازاة لِما كان من المشركين من الاعتداء ، يقول : افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم ، كما يقال : إن تعاطيت مني ظلما تعاطيته منك ، والثاني ليس بظلم ، كما قال عمرو بن شأس الأسدي :

جَزَيْنا ذَوي العُدْوَانِ بالأمسِ قَرْضَهُمْ قِصَاصا سَوَاءً حَذْوَكَ النّعْلَ بالنّعْلِ

وإنما كان ذلك نظير قوله : ( اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ) و( يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سخَر اللّهُ مِنْهُمْ ) وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مضى قبل . وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ والظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ قال : هم المشركون .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عثمان بن غياث ، قال : سمعت عكرمة في هذه الآية : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ : قال : هم من أبى أن يقول لا إله إلا الله .

وقال آخرون : معنى قوله : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ فلا تقاتل إلا من قاتل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ يقول : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ فإن الله لا يحبّ العدوان على الظالمين ولا على غيرهم ، ولكن يقول : اعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم .

فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ لا يجوز أن يقول فإن انتهوا ، إلا وقد علم أنهم لا ينتهون إلا بعضهم ، فكأنه قال : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الظالمين منهم ، فأضمر كما قال : فَمَنْ تَمَتّعَ بِالعُمرةِ إلى الحجّ فَمَا اسْتَيْسرَ من الهدْيِ يريد فعليه ما استيسر من الهَدْيِ ، وكما تقول : إلى من تقصد أقصد ، يعني إليه . وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله ، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم لمن انتهى ، ولا عدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ }( 193 )

وقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على قول من رآها ناسخة( {[1786]} ) ، ومن رآها غير ناسخة قال : المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم { فإن قاتلوكم } ، والأول أظهر ، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار ، دليل ذلك قوله { ويكون الدين لله } ، والفتنة هنا : الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين ، قاله ابن عباس وقتادة والربيع والسدي ، و { الدين } هنا الطاعة والشرع . وقال الأعشى ميمون بن قيس : [ الخفيف ]

هو دان الرباب إذ كرهوا الدي . . . ن دراكاً بغزوةٍ وصيال( {[1787]} )

والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام ، ويصح أن يكون أداء الجزية ، وسمى ما يصنع بالظالمين عدواناً من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع( {[1788]} ) ، والظالمون هم على أحد التأويلين : من بدأ بقتال ، وعلى التأويل الآخر : من بقي على كفر وفتنة .


[1786]:- لقوله تعالى: [فإن قاتلوكم فاقتلوهم].
[1787]:- من قصيدته المشهورة التي قالها يمدح فيها الأسود بن المنذر اللخمي ومطلعها: ما بُكَاءُ الكَبِير بالإطْـــلال وَسُؤَالي فَهَلْ تَرُدُّ سُؤَالِـــــي؟ وبعد البيت: ثُمَّ دَانَتْ بَعْدَ الرِّبَابِ وكَـانتْ كعذَابٍ عُقُوبَةُ الأقْـــــــوَالِ والمعنى: أن هذا الممدوح حمل الرباب على الطاعة حين كرهوا الطاعة – والرباب قبيلة أو أحياء من ضبَّة، وفي اللسان: (دان الرباب: يعني أذلها، ثم دانت بعد الرباب، أي ذلت له وأطاعته) والمعنى واحد.
[1788]:- أي على سبيل المشاكلة كقوله تعالى: [وجزاء سيِّئةٍ سيّئةٌ مِثلها].