القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لّمَن فِيَ أَيْدِيكُمْ مّنَ الأسْرَىَ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبيّ قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ إنْ يَعْلَمِ الله في قُلُوبِكُمْ خَيْرا يقول : إن يعلم الله في قلوبكم إسلاما يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء . وَيَغْفِرْ لَكُمْ يقول : ويصفح لكم عن عقوبة جرمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبيّ الله وأصحابه وكفركم بالله . وَاللّهُ غَفُورٌ لذنوب عباده إذا تابوا ، رَحِيمٌ بهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة . وذُكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول : فيّ نزلت هذه الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : قال العباس : فيّ نزلت : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ ، فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى ، فأبدلني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر ، مالي في يديه .
وقد حدثنا بهذا الحديث ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد ، ثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال : كان العباس بن عبد المطلب يقول : فيّ والله نزلت حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي . ثم ذكر نحو حديث ابن وكيع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى . . . الاَية ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا ، وقد توضأ لصلاة الظهر ، فما أعطى يومئذ شاكيا ولا حرم سائلاً وما صلى يومئذ حتى فرّقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي ، فأخذ . قال : وكان العباس يقول : هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى . . . الاَية ، وكان العباس أسر يوم بدر ، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب ، فقال العباس حين نزلت هذه الاَية : لقد أعطاني الله خصلتين ما أحبّ أن لي بهما الدنيا : أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية ، فآتاني أربعين عبدا وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى . . . إلى قوله : وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني بذلك من أسر يوم بدر ، يقول : إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي ، آتيتكم خيرا مما أخذ منكم وغفرت لكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى عباس وأصحابه ، قال : قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك لرسول الله ، لننصحنّ لك على قومنا فنزل : إنْ يَعْلِمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ إيمانا وتصديقا ، يخلف لكم خيرا مما أصيب منكم ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ الشرك الذي كنتم عليه . قال : فكان العباس يقول : ما أحبّ أن هذه الاَية لم تنزل فينا وأن لي الدنيا ، لقد قال : يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مئة ضعف ، وقال : وَيَغْفِرْ لَكُمْ وأرجو أن يكون قد غفر لي .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى . . . الاَية ، يعني العباس وأصحابه أسروا يوم بدر ، يقول الله : إن عملتم بطاعتي ونصحتم لي ولرسولي أعطيتكم خيرا مما أُخذ منكم وغفرت لكم . وكان العباس بن عبد المطلب يقول : لقد أعطانا الله خصلتين ما شيء هو أفضل منهما : عشرين عبدا . وأما الثانية : فنحن في موعود الصادق ، ننتظر المغفرة من الله سبحانه .
{ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } وقرأ أبو عمرو " من الأسارى " . { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } إيمانا وإخلاصا . { يُؤتكم خيرا مما أُخذ منكم } من الفداء . روي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال : يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال : أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم ، فقال العباس : وما يدريك ، قال : أخبرني به ربي تعالى ، قال فأشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، قال العباس فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم ) يعني الموعود بقوله : { ويغفر لكم والله غفور رحيم } .
استئناف ابتدائي ، وهو إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يتعلّق بحال سرائر بعض الأسرى ، بعد أن كان الخطاب متعلقا بالتحريض على القتال وما يتبعه ، وقد كان العباس في جملة الأسرى وكان ظهر منه ميل إلى الإسلام . قبل خروجه إلى بدر ، وكذلك كان عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وقد فدى العباسُ نفسه وفدى ابنَي أخَوَيْه : عُقيلاً ونوْفلاً . وقال للنبيء صلى الله عليه وسلم تَركتني أتكفّف قريشاً . فنزلت هذه الآية في ذلك ، وهي ترغيب لهم في الإسلام في المستقبل ، ولذلك قيل لهم هذا القول قبل أن يفارقوهم .
فمعنى { من في أيديكم } من في مَلكتكم ووثاقكم ، فالأيدي مستعارة للمِلك . وجمعها باعتبار عدد المالكين . وكان الأسرَى مشركين ، فإنّهم ما فَادوا أنفسهم إلاّ لقصد الرجوع إلى أهل الشرك .
والمراد بالخير محبّة الإيمان والعزم عليه ، أي : فإذا آمنتم بعد هذا الفِداء يؤتكم الله خيراً ممّا أخذ منكم . وليس إيتاء الخير على مجرّد محبة الإيمان والميل إليه ، كما أخبر العبّاس عن نفسه ، بل المراد به ما يترتّب على تلك المحبّة من الإسلام بقرينة قوله : { ويغفر لكم } . وكذلك ليس الخير الذي في قلوبهم هو الجزم بالإيمان : لأنّ ذلك لم يدَّعوه ولا عرِفوا به ، قال ابن وهب عن مالك : كان أسرى بدر مشركين ففادوا ورجعوا ولو كانوا مسلمين لأقاموا .
و« ما أخذ » هو مال الفداء ، والخيرُ منه هو الأوفر من المال بأن ييسِّر لهم أسباب الثروة بالعطاء من أمْوال الغنائم وغيرها . فقد أعطَى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ بعد إسلامه مِن فَيْءِ البَحرين . وإنّما حملنا الخير على الأفضل من المال ؛ لأنّ ذلك هو الأصل في التفضيل بين شيئين أن يكون تفضيلاً في خصائص النوع ، ولأنّه عطف عليه قوله : { ويغفر لكم } وذلك هو خير الآخرة المترتّب على الإيمان ، لأنّ المغفرة لا تحصل إلاّ للمؤمن .
والتذييلُ بقوله : { والله غفور رحيم } للإيماء إلى عظم مغفرته التي يغفر لهم ، لأنّها مغفرة شديدِ الغفران رحيممٍ بعبَاده ، فمثال المبالغة وهو غفور المقتضي قوةَ المغفرة وكثرتها ، مستعمل فيهما باعتبار كثرة المخاطبين وعِظم المغفرة لكلّ واحد منهم .
وقرأ الجمهور { من الأسرى } بفتح الهمزة وراء بعد السين مثل أسرى الأولى ، وقرأها أبو عَمرو ، وأبو جعفر { من الأسَارى } بضمّ الهمزة وألف بعد السين وراءه فورود هما في هذه الآية تفنُّن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا}، يعنى إيمانا، كقوله: {لن يؤتيهم الله خيرا} [هود:31] يعنى إيمانا، وهذا في هود، {يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} من الفداء، فوعدهم الله أن يخلف لهم أفضل ما أخذ منهم، {ويغفر لكم} ذنوبكم، {والله غفور} لما كان منهم من الشرك من ذنوبهم، ذو تجاوز، {رحيم} بهم في الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ "إنْ يَعْلَمِ الله في قُلُوبِكُمْ خَيْرا "يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلاما يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء. "وَيَغْفِرْ لَكُمْ" يقول: ويصفح لكم عن عقوبة جرمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبيّ الله وأصحابه وكفركم بالله.
"وَاللّهُ غَفُورٌ" لذنوب عباده إذا تابوا، "رَحِيمٌ" بهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. وذُكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول: فيّ نزلت هذه الآية...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال عامة أهل التأويل: إن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب وأصحابه، وكذلك يقول ابن عباس: قالوا للنبي: آتنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، فنزل (إن يعلم الله) اعتقاد الإيمان والتصديق له (في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) أي إيمانا وتصديقا، فيخلف عليكم خيرا مما أصيب منكم. لكنها فيه وفي غيره: من فعل مثل فعله فهو في ذلك سواء؛ يكون من الموعود الذي ذكر ما يكون له. وقوله تعالى: (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) أي ما آتاكم خير، وهو الإيمان مما أخذ من المال الذي ذكر في القصة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذي يعْطَوْنه خيرٌ مما أُخِذَ منهم. ويحتمل أن يكون ما في الآخرة من حسن الثواب، ويحتمل أن يكون ما في الدنيا من جميل العِوَض. ويقال هو ما يوصلهم إليه من توفيق الطاعات، وحلاوة الإيمان، وهو خيرٌ مما أُخِذَ منهم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
لَمَّا أُسِرَ من أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ رُوِيَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُمْضُوا بِذَلِكَ عَزِيمَةً، وَلَا اعْتَرَفُوا بِهِ اعْتِرَافًا جَازِمًا. وَيُشْبِهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقْرَبُوا من الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَبْعُدُوا من الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ... وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَقِيقَةَ؛ فَقَالَ: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَك} أَيْ إنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَمَكْرًا {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ من قَبْلُ} بِكُفْرِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِك وَقِتَالِهِمْ لَك، فَأَمْكَنَك مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خَيْرًا وَيَعْلَمُهُ اللَّهُ فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيُعَوِّضُهُمْ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ عَنْهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ من كُفْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ وَمَكْرِهِمْ.
واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة، أو في جملة الأسارى؛
قال قوم: إنها في العباس خاصة، وقال آخرون: إنها نزلت في الكل، وهذا أولى، لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه:
أحدها: قوله: {قل لمن في أيديكم}.
وخامسها: قوله: {مما أخذ منكم}.
فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم، فما الموجب للتخصيص؟ أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول الآية هو العباس، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها النبي} أي الذي أنبئه بكل معنى جليل، يظهر دينه ويزكي أمته مع رفع مقداره وإتمام أنواره {قل لمن في أيديكم} أي في أيدي أصحابك وأهل دينك، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب {من الأسرى} ترغيباً لهم فيما عند الله {إن يعلم الله} بما له من صفات الجلال والجمال {في قلوبكم خيراً} أي شيئاً من تقواه الحاملة على الإيمان الذي هو رأس الخير وعلى كل خير {يؤتكم خيراً مما أخذ منكم} أي مما يفتح به عليكم من المغانم في الدنيا ويدخره لكم من الثواب في الأخرى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم (70) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم (71)}.
هاتان الآيتان متمتان للكلام في أسرى بدر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترغيبهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وبتهديدهم وإنذارهم عاقبة بقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ذلك البشارة بحسن العاقبة والظفر له ولمن اتبعه من المؤمنين.
قال تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} أي قل للذين في تصرف أيديكم من الأسرى وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر من الأسارى الذين أخذتم منهم الفداء {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا} إن كان الله تعالى يعلم أن في قلوبكم إيمانا كامنا بالفعل أو بالاستعداد الذي سيظهر في إبانه أو كما يدعي بعضكم بلسانه، والله أعلم بما في قلوبكم {يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} أي يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم فيه من الغنائم وغيرها من نعم الدين التي وعدهم الله بها.
روى أبو الشيخ عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أن ابن عباس وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا} أي إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أصيب منكم {ويغفر لكم} أي ما كان من الشرك وما ترتب عليه من السيئات. فكان عباس يقول ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وأن لي ما في الدنيا من شيء، فلقد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني مائة ضعف، وأرجو أن يكون غفر لي الله. وقد أخذ هذا من قوله: {والله غفور رحيم} أي غفور لمن تاب من كفره ومن ذنبه بالأولى رحيم بالمؤمنين. والمراد بهذه الرحمة الخاصة التي تشمل سعادة الآخرة، وأما الرحمة العامة فقد وسعت كل شيء. وهذا ترغيب لهم في الإسلام ودعوة إليه، وعدم عدهم مسلمين بما قاله بعضهم، ولذلك قال: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه، ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح، وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى. لا ليستذلهم انتقاماً، ولا ليسخرهم استغلالاً؛ كما كانت تتجه فتوحات الرومان؛ وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالخير محبّة الإيمان والعزم عليه، أي: فإذا آمنتم بعد هذا الفِداء يؤتكم الله خيراً ممّا أخذ منكم. وليس إيتاء الخير على مجرّد محبة الإيمان والميل إليه، كما أخبر العبّاس عن نفسه، بل المراد به ما يترتّب على تلك المحبّة من الإسلام بقرينة قوله: {ويغفر لكم}. وكذلك ليس الخير الذي في قلوبهم هو الجزم بالإيمان: لأنّ ذلك لم يدَّعوه ولا عرِفوا به... والخيرُ منه هو الأوفر من المال بأن ييسِّر لهم أسباب الثروة بالعطاء من أمْوال الغنائم وغيرها. فقد أعطَى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ بعد إسلامه مِن فَيْءِ البَحرين. وإنّما حملنا الخير على الأفضل من المال؛ لأنّ ذلك هو الأصل في التفضيل بين شيئين أن يكون تفضيلاً في خصائص النوع، ولأنّه عطف عليه قوله: {ويغفر لكم} وذلك هو خير الآخرة المترتّب على الإيمان، لأنّ المغفرة لا تحصل إلاّ للمؤمن...
والتذييلُ بقوله: {والله غفور رحيم} للإيماء إلى عظم مغفرته التي يغفر لهم، لأنّها مغفرة شديدِ الغفران رحيمٍ بعبَاده، فمثال المبالغة وهو غفور المقتضي قوةَ المغفرة وكثرتها، مستعمل فيهما باعتبار كثرة المخاطبين وعِظم المغفرة لكلّ واحد منهم...
، والخيرُ منه هو الأوفر من المال بأن ييسِّر لهم أسباب الثروة بالعطاء من أمْوال الغنائم وغيرها. فقد أعطَى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ بعد إسلامه مِن فَيْءِ البَحرين. وإنّما حملنا الخير على الأفضل من المال؛ لأنّ ذلك هو الأصل في التفضيل بين شيئين أن يكون تفضيلاً في خصائص النوع {ويغفر لكم} وذلك هو خير الآخرة المترتّب على الإيمان، لأنّ المغفرة لا تحصل إلاّ للمؤمن.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يتجه إلى الأسرى يرشدهم ويهديهم ويطيب نفوسهم، فيقول تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
يظهر أن ذلك العتب كان والأسرى لا يزالون بالمدينة أو أكثرهم، وكانوا قد دفعوا الفداء؛ وذلك لأنه سبحانه أمر نبيه بأن يخاطبهم هذا الخطاب وعبر بأنهم لا يزالون في أيدي المسلمين أو بعضهم.
خاطب الله نبيه بأن يقول لهم كلمة رحيمة هادية تقرب القلوب، ولا تجفيها، قال سبحانه لنبيه: {قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى}، أي لا يزالون تحت سلطانكم، وقريبين منكم {إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} أي إن يعلم الله في قلوبكم خيرا، وهو رجاء الإيمان منكم، أو قرب احتماله، يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي يؤتكم إيمانا وأن تكونوا في صفوف جيش الله ومع المؤمنين، فيكون الإيمان، وهو خير مطلق، وفضل عميم ويؤتكم من خير الغنائم أكثر مما أخذ منكم.
وهذا تحريض على الإيمان. وقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من غنائم غنمها المسلمون، ومن فدية افتديتم بها أنفسكم،وقد روت صحاح السنة أن ممن شملهم خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول بعض المفسرين: إن الآية نزلت فيه، ونحن نقول: إنها تشمله فيمن كان معه من الأسرى الذين أخذت منهم غنائم في القتال، وأخذت فيه فدية في الأسر، وقد عوض من الأمرين خيرا مما أخذ منه.
...ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله: {والله غفور رحيم}، أي أنه سبحانه وتعالى مع هذا العطاء المضاعف لما أخذ منكم يعطيكم شيئا غير قابل للتعويض وهو من فضل الله ورحمته وهو غفران ما أسلفتم من كفر وجحود ومعاندة لله تعالى، فهو الغفور الذي يغفر ما سبق بأبلغ درجات الغفران ويرحمكم أبلغ الرحمة.