وقوله : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآهَا تَهْتَزّ في الكلام محذوف تُرك ذكره ، استغناء بما ذُكِر عما حُذف ، وهو : فألقاها فصارت حية تهتز فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ يقول : كأنها حية عظيمة ، والجانّ : جنس من الحيات معروف .
وقال ابن جُرَيْج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ قال : حين تحوّلت حية تسعى ، وهذا الجنس من الحيات عني الراجز بقوله :
يَرْفَعْنَ باللّيْلِ إذَا ما أسْدَفا *** أعْناقَ جِنّانٍ وَهاما رُجّفَا
*** وَعَنَقا بَعْدَ الرّسِيم خَيْطَفَا ***
وقوله : وَلّى مُدْبرا يقول تعالى ذكره : ولى موسى هاربا خوفا منها ولَمْ يُعَقّبْ يقول : ولم يرجع من قولهم : عقب فلان : إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قتادة ، قال : لم يلتفت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع يَا مُوسَى قال : لما ألقى العصا صارت حية ، فرعب منها وجزع ، فقال الله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : فلم يرعو لذلك ، قال : فقال الله له : أقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ قال : فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال : سَنُعِيدُها سِيرَتها الأُولى قال : فالتفت فإذا هي عصا كما كانت ، فرجع فأخذها ، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها .
وقوله : يا موسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَديّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ يقول تعالى ذكره : فناداه ربه : يا موسى لا تخف من هذه الحية ، إني لا يخاف لديّ المرسلون : يقول : إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة ، إلا من ظلم منهم ، فعمل بغير الذي أُذن له في العمل به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قوله يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله الفزاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : قوله : يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس ، قال : وقال الحسن : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب .
واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع ، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ بقوله : فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله ، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله : ما قام إلا زيد ، فزيد مثبت له القيام ، لأنه مستثنى مما قبل إلا ، وما قبل إلا منفيّ عنه القيام ، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم : قام القوم إلا زيدا فزيد منفي عنه القيام ومعناه : إن زيدا لم يقم ، والقوم مثبت لهم القيام ، ( إلا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة ، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين . فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت إلا في هذا الموضع ، لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام ، كمثل قول العرب : ما أشتكي إلا خيرا فلم يجعل قوله : إلا خيرا على الشكوى ، ولكنه علم أنه إذا قال : ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا ، كأنه قال : ما أذكر إلا خيرا .
وقال بعض نحويي الكوفة : يقول القائل : كيف صير خائفا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ، وهو مغفور له ؟ فأقول لك : في هذه الاَية وجهان : أحدهما أن يقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملاً صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه . والاَخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ، لأن المعنى : لا يخاف لديّ المرسلون ، إنما الخوف على من سواهم ، ثم استثنى فقال : إلا مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا يقول : كان مشركا ، فتاب من الشرك ، وعمل حسنا ، فذلك مغفور له ، وليس يخاف . قال : وقد قال بعض النحويين : إن إلا في اللغة بمنزلة الواو ، وإنما معنى هذه الاَية : لا يخاف لديّ المرسلون ، ولا من ظلم ثم بدّل حسنا ، قال : وجعلوا مثله كقول الله : لِئَلاّ يكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا ، لأني لا أجيز : قام الناس إلا عبد الله ، وعبد الله قائم إنما معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا . وقد أراه جائزا أن يقول : لي عليك ألف سوى ألف آخر فإن وُضِعت إلا في هذا الموضع صلحت ، وكانت إلا في تأويل ما قالوا ، فأما مجرّدة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ، ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو ، وليست بها قوله : خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ هو في المعنى . والذي شاء ربك من الزيادة ، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو ، ولكن بمنزلة سوى فإذا كانت «سوى » في موضع «إلا » صلحت بمعنى الواو ، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا : أي وهذا عندي ، كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا أيضا عندي ، وهو في سوى أبعد منه في إلا ، لأنك تقول : عندي سوى هذا ، ولا تقول : عندي إلا هذا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُم بَدّلَ عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما ، وهو أن قوله : إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم فأتى ذنبا ، فإنه خائف لديه من عقوبته . وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك ، وهو قوله قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس .
فإن قال قائل : فما وجه قيله إن كان قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناءً صحيحا ، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة ؟ قيل : إن قوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ كلام آخر بعد الأوّل ، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم ، ومن لم يظلم عند قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل ، وسائر الناس غيرهم . وقيل : فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم .
فإن قال قائل : فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لم يكن عطفا على قوله : ظَلَمَ ؟ قيل : على متروك استغني بدلالة قوله ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ عليه عن إظهاره ، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره ، وهو : فمن ظلم من الخلق . وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية ، فقد قالوا على مذهب العربية ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل . وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل ، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل .
وقوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ يقول تعالى ذكره : فمن أتى ظلما من خلق الله ، وركب مأثما ، ثم بدل حسنا ، يقول : ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم ، فإني غَفُورٌ يقول : فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه ، وترك عقوبته عليه رَحِيمٌ به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ، ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ ثم تاب من بعد إساءته فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
{ إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم } استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم ، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضا ، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي . وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي عن ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة .
واختلف الناس في الاستثناء في قوله تعالى { إلا من ظلم } ، فقال مقاتل وغيره : الاستثناء متصل{[8990]} وهو من الأنبياء ، وروى الحسن أن الله تعالى قال لموسى : أخفتك بقتلك النفس ، وقال الحسن أيضاً : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب ثم تذنب والله فتاقب فكيف بنا ، وقال ابن جريج : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه ، قال كثير من العلماء : لم يعر أحد من البشر من ذنب إلا ما روي عن يحيى بن زكرياء عليهما السلام{[8991]} .
قال القاضي أبو محمد : وأجمع العلماء أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل واختلف فيما عدا هذا ، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك ، وفي الآية على هذا التأويل حذف اقتضى الإيجاز والفصاحة ترك نصه تقديره فمن ظلم { ثم بدل } ، وقال الفراء وجماعة : الاستثناء منقطع وهو إخبار عن غير الأنبياء كأنه قال : لكن من ظلم من الناس ثم تاب { فإني غفور رحيم } ، وقالت فرقة : { إلا } بمعنى الواو .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا وجه له{[8992]} ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم «ألا من ظلم » على الاستفتاح ، وقوله { ثم بدل حسناً } معناه عملاً صالحاً مقترناً بتوبة ، وهذه الآية تقتضي حتم المغفرة للتائب ، وأجمع الناس على ذلك في التوبة من الشرك ، وأهل السنة في التائب من المعاصي على أنه في المشيئة كالْمُصِرِّ ، لكن يغلب الرجاء على التائب والخوف على المصر ، وقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[8993]} [ النساء : 48 ] عمت الجميع من التائب والمصر ، وقالت المعتزلة :{ لمن يشاء } [ النساء : 48 ] معناه للتائبين .
قال القاضي أبو محمد : وذلك مردود من لفظ الآية لأن تفصيلها بين الشرك وغيره كان يذهب فائدته إذ الشرك يغفر للتائب وما دونه كذلك على تأويلهم فما فائدة التفصيل في الآية وهذا احتجاج لازم فتأمله ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «حَسناً بعد سَوء » بفتح الحاء والسين وهي قراءة مجاهد وابن أبي ليلى ، وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني{[8994]} «حسنى » مثل فعلى .
الاستثناء في قوله : { إلا من ظلم } ظاهره أنه متصل . ونسَب ابن عطية هذا إلى مقاتل وابن جُريج فيكون { من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء } مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيّز النفي فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب ، أي إلا رسولاً ظَلم ، أي فَرط منه ظلم ، أي ذَنب قبل اصطفائه للرسالة ، أي صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثلُه في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل ، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل ( قبل أن يكون الرسول متعبَّداً بشرع ) فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة يوسف لأخيهم ، واعتداء موسى على القِبطي بالقتل دون معرفة المحق في تلك القضية ؛ فذلك الذي ظلم ثم بَدَّل حُسناً بعد سوء ، أي تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له .
والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه ، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء { هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } [ القصص : 15 ، 16 ] ، فأفرغ هذا التطمين لموسى في قالَب العموم تعميماً للفائدة .
واستقامةُ نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع في قوله : { فإني غفور رحيم } . فالتقدير : إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يَخاف لأني غافر له وقابل لتوبته لأني غفور رحيم . وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة ، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبَيْن بذلك كأنه يقول : لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولَك { هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضلّ مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } [ القصص : 15 ، 16 ] ، وعزمَك على الاستقامة يوم قلتَ : { رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين } [ القصص : 17 ] .
ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدّل حسناً بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم .
ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل { ظَلم } ليومىء إلى قول موسى يوم ارتكب الاعتداء { ربّ إني ظلمتُ نفسي } [ القصص : 16 ] ولذلك تعين أن يكون المقصود ب { من ظَلم ثم بدّل حسناً بعد سوء } موسى نفسَه .
وقال الفرّاء والزجاج والزمخشري وجرى عليه كلام الضحاك : الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظَلم وبدّل حسناً بعد سوء من الناس يغفر له . وعليه تكون { مَن } صادقة على شَخص ظَلَم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل . وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس . والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثباتَ نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، ونقيضُ انتفاء الخوف حصول الخوف . والموجود بعد أداة الاستثناء أنه مغفور له فلا خلاف عليه . ويُفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسناً بعد سوء يخاف عذاب الآخرة .
أما الزمخشري فزاد على ما سلكه الفرّاء والزجاج فجعل ما صْدَق { من ظلم } رسولاً ظلم . والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعاً هو أحد الداعيين اللذين دعيا الفرّاء والزجاج وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضاً لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ما صْدَق { مَن ظلم } رسولاً من الرسل ظلم بما فرط منه من صغائر ليشمل موسى وهو واحد منهم .
وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله ( أي حين القيام بواجبات الرسالة ) لا يخافون شيئاً من المخلوقات لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة ، ولا يخافون الذنوب لأن الله تكفل لهم العصْمة . ولا يخافون عقاباً على الذنوب لأنهم لا يقربونها ، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بَدَّل حسناً بعد سوء أمِن ممّا يُخاف من عقاب الذنوب لأنه تدارك ظلمه بالتوبة ، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه . فهذه معان دلّ عليها الاستثناء باحتماليه ، وذلك إيجاز .
وفي « تفسير ابن عطية » أن أبا جعفر قرأ : { أَلاَ من ظلم } بفتح همزة ( أَلاَ ) وتخفيف اللام فتكون حرف تنبيه ، ولا تعرف نسبة هذه القراءة لأبي جعفر فيما رأينا من كتب علم القراءات فلعلها رواية ضعيفة عن أبي جعفر .
وفعل { بدّل } يقتضي شيئين : مأخوذاً ، ومُعطى ، فيتعدى الفعل إلى الشيئين تارة بنفسه كقوله تعالى في الفرقان ( 70 ) { فأولئك يبدِّل الله سيئاتهم حسنات } ، ويتعدّى تارة إلى المأخوذ بنفسه وإلى المعطى بالباء على تضمينه معنى عَاوض كما قال تعالى : ولا تتبدّلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] ، أي لا تأخذوا خبيث المال وتضيّعوا طيِّبه ، فإذا ذكر المفعولان منصوبين تعين المأخوذ والمبذول بالقرينة وإلا فالمجرور بالباء هو المبذول ، وإن لم يذكر إلا مفعول واحد فهو المأخوذ كقول امرىء القيس :
وبُدِّلت قُرحاً دامياً بعد صحة *** فيا لكِ من نُعمى تبدَّلْنَ أبؤسا
وكذلك قوله تعالى هنا : { ثم بدل حسناً بعد سوء } أي أخذ حسناً بسوء ، فإن كلمة { بعد } تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتاً ثم زال وخلفه غيره . وكذلك ما يفيد معنى ( بعد ) كقوله تعالى : { ثم بدلنا مكانَ السيئة الحسنة } [ الأعراف : 95 ] فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إلا من ظلم} نفسه من الرسل، فإنه يخاف... {ثم بدل حسنا بعد سوء} يعنى فمن بدل إحسانا بعد إساءته {فإني غفور رحيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 10]
وقوله:"وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآهَا تَهْتَزّ" في الكلام محذوف تُرك ذكره، استغناء بما ذُكِر عما حُذف، وهو: فألقاها فصارت حية تهتز، "فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ "يقول: كأنها حية عظيمة، والجانّ: جنس من الحيات معروف...
وقوله: "وَلّى مُدْبرا" يقول تعالى ذكره: ولى موسى هاربا خوفا منها، "ولَمْ يُعَقّبْ" يقول: ولم يرجع من قولهم: عقب فلان: إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ...
وقوله: "يا موسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَديّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ" يقول تعالى ذكره: فناداه ربه: يا موسى لا تخف من هذه الحية، "إني لا يخاف لديّ المرسلون": يقول: إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة، إلا من ظلم منهم، فعمل بغير الذي أُذن له في العمل به.. عن ابن جُرَيج، قال: قوله "يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ" قال: لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه...
يقول القائل: كيف صير خائفا من ظلم، ثم بدّل حسنا بعد سوء، وهو مغفور له؟ فأقول لك: في هذه الآية وجهان: أحدهما أن يقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة، ومن خلط عملاً صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو، فهذا وجه. والآخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة، لأن المعنى: لا يخاف لديّ المرسلون، إنما الخوف على من سواهم، ثم استثنى فقال: "إلا مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا" يقول: كان مشركا، فتاب من الشرك، وعمل حسنا، فذلك مغفور له، وليس يخاف... والصواب من القول في قوله "إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُم بَدّلَ..." عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما، وهو أن قوله: إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم فأتى ذنبا، فإنه خائف لديه من عقوبته. وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك، وهو قوله قال: إني إنما أخفتك لقتلك النفس.
فإن قال قائل: فما وجه قيله إن كان قوله "إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناءً" صحيحا، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة؟ قيل: إن قوله: "ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ" كلام آخر بعد الأوّل، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم، ومن لم يظلم عند قوله "إلاّ مَنْ ظَلَمَ" ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل، وسائر الناس غيرهم. وقيل: فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم.
فإن قال قائل: فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لم يكن عطفا على قوله: ظَلَمَ؟ قيل: على متروك استغني بدلالة قوله "ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ" عليه عن إظهاره، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره، وهو: فمن ظلم من الخلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية، فقد قالوا على مذهب العربية، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل. وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل.
وقوله: "ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ" يقول تعالى ذكره: فمن أتى ظلما من خلق الله، وركب مأثما، ثم بدل حسنا، يقول: ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم، "فإني غَفُورٌ" يقول: فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه، وترك عقوبته عليه "رَحِيمٌ" به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء} هذا [أيضا] يخرج على وجوه: أحدها: {لا يخاف لدي المرسلون} {إلا من ظلم} إذا بدل حسنا بعد سوء. والثاني: {لا يخاف لدي المرسلون} ولكن من ظلم ممن سواهم {ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم}، رجاء المغفرة وطمع العفو في مكان منه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {إِلا} بمعنى «لكن» لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة، فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أي فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزة القبطي، ويشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسماه ظلماً، كما قال موسى: {رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} [القصص: 16] والحسن والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل شيء ثم أقلع عنه، ورجع وأناب، فإن الله يتوب عليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل أول الكلام وآخره على أن التقدير ما ذكرته، وعلم منه أن من ظلم خاف، وكان المرسلون بل الأنبياء معصومين عن صدور ظلم، ولكنهم لعلو مقامهم، وعظيم شأنهم، يعد عليهم خلاف الأولى، بل بعض المباحات المستوية، بل أخص من ذلك، كما قالوا "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، استدرك سبحانه من ذلك بأداة الاستثناء ما يرغب المرهبين من عواقب الظلم آخر تلك في التوبة، وينبه موسى عليه السلام على غفران وكزة القبطي له، وأنه لا خوف عليه بسببه وإن كان قتله مباحاً لكونه خطأ مع أنه كافر، لكن علو المقام يوجب التوقف عن الإقدام إلا بإذن خاص، ولذلك سماه هو ظلماً فقال {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها فقال: {إلا} أو المعنى: لكن {من ظلم} كائناً من كان، بفعل سوء {ثم بدل} بتوبته {حسناً بعد سوء} وهو الظلم الذي كان عمله، أي جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه الصلاة والسلام فإني أغفره له بحيث يكون كأنه لم يعمله أصلاً، وأرحمه بما أسبغ عليه من ملابس الكرامة المقارنة للأمن والعز وإن أصابه قبل ذلك نوع خوف. ثم علل ذلك بأن المغفرة والرحمة صفتان له ثابتتان، فقال: {فإني} أي أرحمه بسبب أني {غفور} أي من شأني أني أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها {رحيم} أعامل التائب منها معاملة الراحم البليغ الرحمة بما يقتضيه حاله من الكرامة، فأزيل أثر ما كان وقع فيه من موجب الخوف وهو الظلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما يخاف الذين ظلموا. ذلك إلا أن يبدلوا حسنا بعد سوء، ويدعوا الظلم إلى العدل؛ ويدعوا الشرك إلى الإيمان، ويدعوا الشر إلى الخير. فإن رحمتي واسعة وغفراني عظيم
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستثناء في قوله: {إلا من ظلم} ظاهره أنه متصل... فيكون {من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء} مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيّز النفي، فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب، أي إلا رسولاً ظَلم، أي فَرط منه ظلم، أي ذَنب قبل اصطفائه للرسالة، أي صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثلُه في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل (قبل أن يكون الرسول متعبَّداً بشرع) فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة يوسف لأخيهم، واعتداء موسى على القِبطي بالقتل دون معرفة المحق في تلك القضية؛ فذلك الذي ظلم ثم بَدَّل حُسناً بعد سوء، أي تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له.
والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء {هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} [القصص: 15، 16]، فأفرغ هذا التطمين لموسى في قالَب العموم تعميماً للفائدة.
واستقامةُ نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع في قوله: {فإني غفور رحيم}. فالتقدير: إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يَخاف لأني غافر له وقابل لتوبته لأني غفور رحيم. وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبَيْن بذلك كأنه يقول: لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولَك {هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضلّ مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} [القصص: 15، 16]، وعزمَك على الاستقامة يوم قلتَ: {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين} [القصص: 17].
ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدّل حسناً بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم.
ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل {ظَلم} ليومئ إلى قول موسى يوم ارتكب الاعتداء {ربّ إني ظلمتُ نفسي} [القصص: 16] ولذلك تعين أن يكون المقصود ب {من ظَلم ثم بدّل حسناً بعد سوء} موسى نفسَه.
وقال الفرّاء والزجاج والزمخشري وجرى عليه كلام الضحاك: الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظَلم وبدّل حسناً بعد سوء من الناس يغفر له. وعليه تكون {مَن} صادقة على شَخص ظَلَم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل. وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس. والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثباتَ نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى، ونقيضُ انتفاء الخوف حصول الخوف. والموجود بعد أداة الاستثناء أنه مغفور له فلا خلاف عليه. ويُفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسناً بعد سوء يخاف عذاب الآخرة.
أما الزمخشري فزاد على ما سلكه الفرّاء والزجاج فجعل ما صْدَق {من ظلم} رسولاً ظلم. والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعاً هو أحد الداعيين اللذين دعيا الفرّاء والزجاج وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضاً لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ما صْدَق {مَن ظلم} رسولاً من الرسل ظلم بما فرط منه من صغائر ليشمل موسى وهو واحد منهم.
وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله (أي حين القيام بواجبات الرسالة) لا يخافون شيئاً من المخلوقات لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة، ولا يخافون الذنوب لأن الله تكفل لهم العصْمة. ولا يخافون عقاباً على الذنوب لأنهم لا يقربونها، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بَدَّل حسناً بعد سوء أمِن ممّا يُخاف من عقاب الذنوب لأنه تدارك ظلمه بالتوبة، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه. فهذه معان دلّ عليها الاستثناء باحتماليه، وذلك إيجاز...
وفعل {بدّل} يقتضي شيئين: مأخوذاً، ومُعطى... {ثم بدل حسناً بعد سوء} أي أخذ حسناً بسوء، فإن كلمة {بعد} تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتاً ثم زال وخلفه غيره... فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة.