وقوله : { وَمَا أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ } يقول : وما أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر خير من ألف شهر .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : العمل في ليلة القدر بما يرضي الله ، خير من العمل في غيرها ألفَ شهر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : بلغني عن مجاهد { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } قال : عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر .
قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، قوله : { خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } قال : عملٌ فيها خير من عمل ألف شهر .
وقال آخرون : معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } ليس فيها ليلة القدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حَكّام بن سلم ، عن المُثَنّى بن الصّبّاح ، عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتي يُمْسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الاَية : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } قيام تلك الليلة خير من عمر ذلك الرجل .
حدثني أبو الخطاب الجاروديّ سُهيل ، قال : حدثنا سَلْم بن قُتيبة ، قال : حدثنا القاسم بن الفضل ، عن عيسى بن مازن ، قال : قلت للحسن بن عليّ رضي الله عنه : يا مسوّد وجوه المؤمنين ، عمدت إلى هذا الرجل ، فبايعت له - يعني معاوية بن أبي سفيان - فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِي في منامه بني أميّة يَعْلُون منبره خليفة خليفة ، فشقّ ذلك عليه ، فأنزل الله : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } و { إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } يعني مُلْكَ بني أمية ، قال القاسم : فحسبنا مُلْكَ بني أمية ، فإذا هو ألف شهر .
وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزليل قول من قال : عمل في ليلة القَدْر خير من عمل ألف شهر ، ليس فيها ليلة القَدْر . وأما الأقوال الأخر ، فدعاوَى معانٍ باطلة ، لا دلالة عليها من خبر ولا عقل ، ولا هي موجودة في التنزيل .
كما عظمه بأن أسند نزوله إليه وعظم الوقت الذي أنزل فيه بقوله { وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر } وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها ، أو أنزله جملة من اللوح إلى السماء الدنيا على السفرة ، ثم كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة . وقيل : المعنى أنزلناه في فضلها ، وهي في أوتار العشر الأخير في رمضان ، ولعلها السابعة منها ، والداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها ليالي كثيرة . وتسميتها بذلك لشرفها ، أو لتقدير الأمور فيها ، لقوله سبحانه وتعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم ، وذكر الألف إما للتكثير أو لما روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر إسرائيليا يلبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المؤمنون ، وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة القدر هي خير من مدة ذلك الغازي .
وقوله تعالى : { وما أدراك ما ليلة القدر } ليلة القدر عبارة عن تفخيم لها ، ثم أدراه تعالى بعد قوله : { ليلة القدر خير } ، قال ابن عيينة في صحيح البخاري : ما كان في القرآن : { وما أدراك } فقد أعلمه ، وما قال : «وما يدريك » فإنه لم يعلم{[11919]} ، وذكر ابن عباس وقتادة وغيره : أنها سميت ليلة القدر ، لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها ، ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله ، وقد روي مثل هذا في ليلة النصف من شعبان ، ولهذا ظواهر من كتاب الله عز وجل على نحو قوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم }{[11920]} [ الدخان : 4 ] ، وأما الصحة المقطوع بها فغير موجودة ، وقال الزهري معناه : ليلة القدر العظيم والشرف الشأن ، من قولك : رجل له قدر ، وقال أبو بكر الوراق : سميت ليلة القدر لأنها تسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن من قبل ، وترده عظيماً عند الله تعالى ، وقيل : سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر خطير ، وليلة القدر مستديرة في أوتار{[11921]} العشر الأواخر من رمضان ، هذا هو الصحيح المعول عليه ، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر ، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر ، لأن الأوتار مع كمال الشهر ، ليست الأوتار مع نقصانه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسل : «لثالثة تبقى ، لخامسة تبقى ، لسابعة تبقى{[11922]} » ، وقال : «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة{[11923]} » ، وقال مالك : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين ، وقال ابن حبيب : يريد مالك إذا كان الشهر ناقصاً ، فظاهر هذا أنه عليه السلام احتاط في كمال شهر ونقصانه ، وهذا لا تتحصل معه الليلة إلا بعمارة العشر كله ، وروي عن أبي حنيفة وقوم : أن ليلة القدر رفعت ، وهذا قول مردود ، وإنما رفع تعيينها ، وقال ابن مسعود : من يقم السنة كلها يصبها ، وقال أبو رزين : هي أول ليلة من شهر رمضان ، وقال الحسن : هي ليلة سبع عشرة ، وهي التي كانت في صبيحتها وقعة بدر ، وقال كثير من العلماء : هي ليلة ثلاث وعشرين ، وهي رواية عبد الله بن أنيس الجهني ، وقاله ابن عباس ، وقال أيضاً وهو وجماعة من الصحابة : هي ليلة سبع وعشرين ، واستدل ابن عباس على قوله بأن الإنسان خلق من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، واستحسن ذلك عمر رضي الله عنه ، وقال زيد بن ثابت وبلال : هي ليلة أربع عشرين ، وقال بعض العلماء : أخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها ، ثم عظم تعالى أمر ليلة القدر على نحو قوله : { وما أدراك ما الحاقة } [ الحاقة : 2 ] وغير ذلك
تنويه بطريق الإِبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة .
وكلمة ( ما أدراك ما كذا ) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه ، والمعنى : أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر ، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها ، وقد تقدمت غير مرة منها ، قوله : { وما أدراك ما يوم الدين } في سورة الانفطار ( 17 ) قريباً . والواو واو الحال .
وأعيد اسم { لَيْلَةُ القدر } الذي سَبق قريباً في قوله : { في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] على خلافِ مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإِضمارُ ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها ، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحاً ، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان .