القول في تأويل قوله تعالى : { لّهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : له مفاتيح خزائن السموات والأرض ، يفتح منها على من يشاء ، ويمسكها عمن أحب من خلقه واحدها : مقليد . وأما الإقليد : فواحد الأقاليد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مفاتيحها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ أي مفاتيح السموات والأرض .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خزائن السموات والأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : المقاليد : المفاتيح ، قال : له مفاتيح خزائن السموات والأرض .
وقوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ يقول تعالى ذكره : والذين كفروا بحجج الله فكذبوا بها وأنكروها ، أولئك هم المغبونون حظوظهم من خير السموات التي بيده مفاتيحها ، لأنهم حرموا ذلك كله في الاَخرة بخلودهم في النار ، وفي الدنيا بخذلانهم عن الإيمان بالله عزّ وجلّ .
{ له مقاليد السموات والأرض } لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره ، وهو كنايه عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص ، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها ، وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته ، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير . وعن عثمان رضي الله عنه : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال " تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير " والمعنى على هذا إن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه . { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } متصل بقوله { وينجي الله الذين اتقوا } وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها ، وتغيير النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم ، وللتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه ، والمراد بآيات الله دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض ، أو كلمات توحيده وتمجيده وتخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: له مفاتيح خزائن السموات والأرض، يفتح منها على من يشاء، ويمسكها عمن أحب من خلقه... عن السدي، قوله:"لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ" قال: خزائن السموات والأرض...
وقوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ "يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بحجج الله فكذبوا بها وأنكروها، أولئك هم المغبونون حظوظهم من خير السموات التي بيده مفاتيحها، لأنهم حرموا ذلك كله في الآخرة بخلودهم في النار، وفي الدنيا بخذلانهم عن الإيمان بالله عزّ وجلّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} له مفاتيح جميع البركات والخيرات على أهل السماوات والأرض، يخبر أن ذلك كله بيده، ليس بيد أحد سواه، منه يُطلب ذلك، ومنه يستفاد.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كأن الله عز وجل جعل هذه الدنيا وما فيها لأهلها وبيّن أحوالهم، يتّجرون بها ويشترون بها الآخرة، ويتزوّدون لها. ولذلك قال عز وجل: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات} [البقرة: 207]
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: بما اتصل قوله: {والذين كَفَرُواْ} قلت: بقوله: {وَيُنَجِّى الله الذين اتقوا} أي ينجي الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخاسرون، واعتراض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء.
{والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون}... صريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر، وهذا يدل على أن كل من لم يكن كافرا فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله، بل الأقرب عندي أن يقال إنه لما وصف الله تعالى نفسه بالصفات الإلهية والجلالية، وهو كونه خالقا للأشياء كلها، وكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض بأسرها، قال بعده: {والذين كفروا} بهذه الآيات الظاهرة الباهرة {أولئك هم الخاسرون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الخافقان خزائن الكائنات، وكان لا يتصرف في الخزائن إلا ذو المفاتيح، قال دالاً على وكالته: {له} أي وحده {مقاليد} واحدها مقلاد مثل مفتاح، ومقليد مثل قنديل، وهي المفاتيح والأمور الجامعة القوية، وهي استعارة لشدة التمكن من
{السماوات} أي جميع أعدادها {والأرض} أي جنسها خزائنهما وأمورهما ومفاتيحهما الجامعة لكل ما فيهما، فلا يمكن أن يكون فيهما شيء ولا أن يتصرف في شيء منهما ولا فيهما أحد إلا بإذنه، فلا بدع في تنجيته الذين اتقوا.
{أولئك} البعداء البغضاء {هم} خاصة {الخاسرون} فإنهم خسروا نفوسهم وكل شيء يتصل بها على وجه النفع؛ لأن كفرهم أقبح الكفر من حيث أنه متعلق بأظهر الأشياء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون).. خسروا الإدراك الذي يجعل حياتهم في الأرض متسقة مع حياة الكون كله؛ وخسروا راحة الهدى وجمال الإيمان وطمأنينة الاعتقاد وحلاوة اليقين، وخسروا في الآخرة أنفسهم وأهليهم، فهم الخاسرون الذين ينطبق عليهم لفظ (الخاسرون)!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة الثالثة: {لَهُ مقَاليدُ السمواتِ والأرض} وجيء بها مفصولة؛ لأنها تفيد بيان الجملة التي قبلها فإن الوكيل على شيء يكون هو المتصرف في العطاء والمنع. المقاليد: جمع إِقليد بكسر الهمزة وسكون القاف وهذا جمع على غير قياس،وهي كناية عن حفظ ذخائرها.
وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه، ومن أعظم ذلك النبوءة وهديُ الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرَّأَهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة دونهم، واختصاص أتباعه بالهُدى فقالوا: {أهؤلاء مَنَّ الله عليهم مِنْ بيننا} [الأنعام: 53].
فهذه الجمل اشتملت على مقدمات ثلاث تقتضي كل واحدة منها دلالة على وحدانية الله بالخلق ثم بالتصرف المطلق في مخلوقاته، ثم بوضع النظم والنواميس الفطرية والعقلية والتهذيبية في نظام العالم وفي نظام البشر. وكل ذلك موجب توحيده وتصديقَ رسوله صلى الله عليه وسلم والاستمساك بعروته كما رَشد بذلك أهل الإِيمان.
فأما الجملة الرابعة وهي: {والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون} فتحتمل الاعتراض، ولكن اقترانها بالواو بعد نظائرها يرجح أن تكون الواو فيها عاطفة وأنها مقصودة بالعطف على ما قبلها؛ لأن فيها زيادة على مفاد الجملة قبلها، وتكون مقدمة رابعة للمقصود تجهيلاً للذين هم ضد المقصود من المقدمات فإن الاستدلال على الحق بإبطال ضده ضرب من ضروب الاستدلال.
ووُصف {الذين كفروا بآيات الله} بأنهم الخاسرون؛ لأنهم كفروا بآيات مَن له مقاليد خزائن الخير فعرَّضوا أنفسهم للحرمان مما في خزائنه وأعظمها خزائن خير الآخرة.
والإِخبار عن الذين كفروا باسم الإِشارة للتنبيه عن أن المشار إليهم خسروا لأجْلِ ما وصفوا به قبلَ اسمِ الإِشارة وهو الكفر بآيات الله.
وتوسطُ ضمير الفصل لإِفادة حصر الخسارة فِيهم وهو قصر ادعائي؛ بناء على عدم الاعتداد بخسارة غيرهم بالنسبة إلى خسارتهم فخسارتهم أعظم خسارة...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.