التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

وبعد هذا البيان المشتمل على سوء عاقبة هذه الأمم التى كذبت رسلها . . . أتبع ذلك - سبحانه - ببيان مصير كثير من الأمم الظالمة فقال : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } .

وكلمة " كأين " مركبة من كاف التشبيه ، ومن أى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير ، ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها . ومميزها غالبا ما يجر بمن كما فى الآية وفى غيرها . قال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ . . } { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } قال الآلوسى : وقوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } منصوب بمضمر يفسره قوله - تعالى - : { أَهْلَكْنَاهَا } أى : فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها . . . أو مرفوع على الابتداء ، وجملة { أَهْلَكْنَاهَا } خبره .

أى : فكثير من القرى أهلكناها . . . وقوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من مفعول أهلكنا . . .

ولفظ { خَاوِيَةٌ } بمعنى ساقطة أو خالية . يقال خوى البيت يخوى إذا سقط أو خلا ممن يسكنه .

والعروش : جمع عرش وهو سقف البيت ، ويسمى العريش : وكل ما يُهيأ ليُسْتَظَلَ به فهو عريش .

وبئر معطلة أى : مهجورة لهلاك أهلها ، يقال : بأر فلان الأرض إذا حفرها ليستخرج منها الماء .

والمَشِيد : المجصص بالشِّيد وهو الجِصّ . يقال : شاد فلان بيته يَشِيده ، إذا طلاه بالشِّيد .

والمعنى : وكثير من القوى أهلكناها بسبب ظلمهم وكفرهم ، فإذا ما نظرت إليها وجدتها خالية من أهلها ، وقد سقطت سقوفها على جدرانها . وكثير من الآبار التى كانت تتفجر بالماء عطلناها وصارت مهجورة ، وكثير - أيضا - من القصور المشدة الفخمة أخليناها من أهلها . وذلك لأنهم كذبوا رسلنا ، وجحدوا نعمنا ، فدمرناهم تدميرا . وجعلنا مساكنهم من بعدهم اثرا بعد عين .

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على أشد ألوان الوعيد والتهديد لكفار قريش الذين كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضوا عن دعوته .

وشبيه بهذه الاية قوله - تعالى - : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

{ كأين } هي كاف التشبيه دخلت على «أي » قال سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل عمران في قوله { وكأين من نبي قاتل }{[8399]} [ آل عمران : 146 ] ، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاماً ، وحكى الفراء «كأين ما لك » ، وقرأت فرقة «أهلكناها » ، وقرأت فرقة «أهلكتها » ، بالإفراد والمراد أهل القرية و { ظالمة } معناه بالكفر ، و { خاوية } ، معناه خالية ومنه خوى النجم اذا خلا من النور ، ونحوه ساقطة { على عروشها } ، والعرش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي على العروش ، { وبئر } ، قيل هو معطوف على «العروش » وقيل على «القرية » وهو أصوب{[8400]} ، وقرأت فرقة «وبيئر » بهمزة وسهلها الجمهور ، وقرأت فرقة «مَعْطَلة » بفتح الميم وسكون العين وفتح الطاء وتخفيفها ، والجمهور على «مُعَطّلة » بضم الميم وفتح العين وشد الطاء ، و «المشيد » المبني بالشيد وهو الجص ، وقيل «المشيد » المعلى بالآجر ونحو : فمن الشيد قول عدي بن زيد :

شاده مرمراً وجلله كلساً . . . فللطير في ذراه وكور{[8401]}

شاد : بنى بالشيد ، والأظهر في البيت أنه أراد علاه بالمرمر ، وقالت فرقة في هذه الآية إن { مشيد } معناه معلى محصناً ، وجملة معنى الآية تقتضي أنه كان كذلك قبل خرابه .


[8399]:من الآية (146) من سورة (آل عمران)، راجع جـ 3 ص 352 وما بعدها. وكثير من اللغويين يرون أن (كأين) غير مركبة، بل هي بسيطة وهي كلمة وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو: (كم)،= ولا دليل على أنها مركبة، والدليل على أنها بسيطة إثبات نونها في الخط لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها، وأن العرب يتلاعبون بها، إذ فيها خمس لغات، وأبو حيان الأندلسي يميل إلى هذا الرأي.
[8400]:قال الفراء في (معاني القرآن): "البئر والقصر يخفضان على العطف على "العروش"، وإذا نظرت في معناها وجدتها ليست تحسن فيها (على)؛ لأن العروش أعالي البيوت، والبئر في الأرض وكذلك القصر، لأن القرية لم تخو على القصر، ولكنه أتبع بعضه بعضا"، وهذا يوضح سب الضعف في العطف على "العروش"، ولهذا قال أبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط): "وجعل {وبئر معطلة وقصر مشيد} معطوفين على [عروشها] جهل بالفصاحة". ومع هذا فقد عاد الفراء في نهاية كلامه إلى تفضيل العطف على العروش قائلا: "إنه أحب إلي".
[8401]:البيت من قصيدة نظمها عدي بن زيد وهو في السجن، وتحدث فيها عن صروف الدهر وعبر الأيام، وأورد أسماء الملوك والأباطرة والأكاسرة الذين أدركوا غاية الثراء والأبهة والسلطة، ثم تركوا كل ذلك مخلفين قصورهم المرمرية كشاهد على هزيمة الإنسان أمام الزمن، وهو في هذا البيت يصل الحديث عن قصر يسمى (الحضر) ناه الضيزن ابن معاوية القضاعي فيقول: إنه قد شيد هذا القصر بالمرمر، وجلله بالكلس فارتفع وشمخ حتى أوت الطيور إلى أعاليه تبني أعشاشها. والكلس هو الجير، والذرى: جمع ذروة وهي أعلى الشيء، والذرى ـ بالفتح ـ الكن وما سترك وكنك من حائط أو شجر. والبيت في اللسان شاهدا على أن المشيد هو المبني بالشيد. وفي اللسان أيضا مناقشة طويلة بين اللغويين في الفرق بين (مشيد) و (مشيدة). هذا والشيد: كل شيء طليت به الحائط من بلاط أو جص.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

تفرع ذكر جملة { كأين من قرية } على جملة { فكيف كان نكير } [ الحج : 44 ] فعطفت عليها بفاء التفريع ، والتعقيب في الذكر لا في الوجود ، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره ، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع ، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العَدد شُمولاً للأقوام الذين ذُكروا من قبل في قوله : { فقد كذبت قبلهم قوم نوح } [ الحج : 42 ] إلى آخره فيكون لتلك الجملةِ بمنزلة التذييل .

و { كأيّن } اسم دال على الإخبار عن عدد كثير .

وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر . والتقدير : كثير من القرى أهلكناها ، وجملة { أهلكناها } الخبر .

ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره { أهلكناها } والتقدير : أهلكنا كثيراً من القرى أهلكناها ، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها ( كأيّن ) بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية ، وعلى الوجه الأول فجملة { أهلكناها } في محل جر صفة ل { قرية } . وجملة { فهي خاوية } معطوفة على جملة { أهلكناها ، } وقد تقدم نظيره في قوله { وكأين من نبي } في [ سورة آل عمران : 146 ] .

وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون ، منهم من ذُكر في القرآن مثل عاد وثمود . ومنهم من لم يذكر مثل طَسم وجَديس وآثارُهم باقية في اليمامة .

ومعنى { خاوية على عروشها } أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار . وجملة { على عروشها } خبر ثان عن ضمير { فهي } والمعنى : ساقطة على عروشها ، أي ساقطة جدرانها فوق سُقفها .

والعروش : جمع عَرش ، وهو السَقْف ، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } في [ سورة البقرة : 259 ] .

والمعطلة : التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع ، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا . وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئاراً في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بِئراً واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه السلام .

والقصر : المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقاً .

والمَشِيد : المبنيّ بالشّيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجصّ : وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رُصّ به .

والقصور المُشيّدة : وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرةٌ مثل : قصر غُمدان في اليمن ، وقصور ثمود في الحِجْر ، وقصور الفراعنة في صعيد مصر ، وفي « تفسير القرطبي » يقال : « إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان . ويقال : إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء . وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول عليه السلام . وكان صالح معهم ، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حَنظلة بن صفوان رسولاً فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشاً » . يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة ( كأيّنْ ) تنافي إرادة قرية معيّنة .

وقرأ الجمهور { أهلكناها } بنون العظمة : وقرأه أبو عَمرو ويعقوب { أهلكتُها } بتاء المتكلم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فكأين من قرية} يعني: وكم من قرية أهلكناها بالعذاب في الدنيا {أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية} يعني: خربة {على عروشها} يعني: ساقطة من فوقها، يعنى بالعروش سقوف البيت، أي ليس فيها مساكن، {وبئر معطلة} يعني: خالية لا تستعمل، {وقصر مشيد}، يعني: طويلا في السماء ليس له أهل.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون، يقول: وهم يعبدون غير من ينبغي أن يعبد، ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه. وقوله:"فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها" يقول: فباد أهلها وخلت، وخوت من سكانها، فخربت وتداعت، وتساقطت على عروشها، يعني على بنائها وسقوفها... وقوله: "وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ "يقول تعالى: فكأين من قرية أهلكناها، ومن بئر عطلناها، بإفناء أهلها وهلاك وارديها، فاندفنت وتعطلت، فلا واردة لها ولا شاربة منها. وَمِنْ "قَصْرٍ مَشِيدٍ": رفيع بالصخور والجصّ، قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم، فبادوا وبقي قصورهم المشيدة خالية منهم..

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

لم يهلك الله عز وجل أهل قرية إهلاك استئصال وتعذيب إلا بعد عناد أهلها وظلم شرك كقوله: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}.

وقوله تعالى: {فهي خاوية على عروشها}،قال بعضهم: فإذا ذهبت السقف وبقيت الحيطان {فهي خاوية على عروشها}، وقال بعضهم: خاوية: خربة ساقطة حيطانها على سقوفها. وهكذا كان ما أهلك الله من القرى: منها ما أهلك أهلها، وترك القرى والبنيان على حالها لأوليائها؛ من ذلك فرعون وقومه وغيرهم من الأقوام، ومنها ما أهلك القرى بأهلها، لم يترك منها شيئا من نحو قريات لوط وثمود وعاد وغيرها. والمشيد بالتشديد المطول المرتفع. وكأنه ذكر هذا لأهل مكة لوجهين: أحدهما: أن كانت قرية، فيها قصور مشيدة محصنة، يتحصنون بها. يخبر أن من كان قبلكم أشد قوة وأكثر حصنا وقصورا. فلما كذبوا رسلهم لم ينفعهم ذلك، ولكن نزل بهم العذاب، فعلى ذلك أنتم يا أهل مكة إذا كذبتم رسولكم ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك. والثاني: أن يكونوا آمنين فيها مطمئنين، فقال: إن أولئك قد كانوا آمنين مطمئنين في قراهم كأمنكم، ثم نزل بهم ما نزل، فأنتم وإن كنتم آمنين فسينزل بكم ما نزل بأولئك. وهو ما قال سبحانه وتعالى: {واضرب مثلا قرية كانت أمنة مطمئنة} الآية (النحل: 112) والله أعلم.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الظلم يوجب خراب أوطان الظالم، فتخرب أولا أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشة التي هي غالبة على الظلمة من ضيق صدورهم، وسوء أخلاقهم، وفرط غيظ من يظلمون عليهم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو «عرش» والخاوي: الساقط، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل.

وقوله: {على عُرُوشِهَا} لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي خرّت سقوفها على الأرض، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما أن يكون خبراً بعد خبر، كأنه قيل: هي خالية، وهي على عروشها أي قائمة مطلة على عروشها، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة...

["وبئر معطلة"]...ومعنى المعطلة: أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء؛ إلا أنها عطلت، أي: تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها.

"وقصر مشيد"، والمشيد: المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى: كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وفي هذا دليل على أنّ {على عُرُوشِهَا} بمعنى «مع» أوجه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت هذه الأمم السبعة أكثر أهل الأرض، بل كانت أمة منهم أهل الأرض كما مضى بيانه في الأعراف، فكيف بمن عداهم ممن كان في أزمانهم وبعدهم، وأخبر سبحانه وتعالى أن عادته فيهم الإملاء ثم الإهلاك، تسبب عن ذلك تهويل الإخبارعنهم وتكثيرهم، فقال تعالى شارحاً للأخذ والإمهال على طريق النشر المشوش: {فكأين من قرية أهلكناها} كهؤلاء المذكورين وغيرهم، وفي قراءة الجماعة غير أبي عمرو بالنون إظهاراً للعظمة {وهي} أي والحال أنها {ظالمة فهي} أي فتسبب عن إهلاكها أنها {خاوية} أي متهدمة ساقطة أي جدرانها {على عروشها} أي سقوفها، بأن تقصفت الأخشاب ولا من كثرة الأمطار، وغير ذلك من الأسرار، فسقطت ثم سقطت عليها الجدران. أو المعنى: خالية، قد ذهبت أرواحها بذهاب سكانها على البقاء سقوفها، ليست محتاجة إلى غير السكان {و} كم من {بئر معطلة} من أهلها مع بقاء بنائها، وفوران مائها {وقصر مشيد} أي عال متقن مجصص لأنه لا يشيد -أي يجصص- إلا الذي يقصد رفعه، فخلت القصور من أربابها، وأقفرت موحشة من جميع أصاحبها، بعد كثرة التضام في نواديها، وعطلت الآبار من ورَّادها بعد الازدحام بين رائحها وغاديها، دانية ونائية، حاضرة وبادية؛ ولما كان خراب المشيد يوهى من أركانه، ويخلق من جدارنه، لم يحس التشديد في وصف القصر، كما حسن في وصف البئر.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَهِيَ ظَالِمَةٌ} بكفرها بالله وتكذيبها لرسله، لم يكن عقوبتنا لها ظلما منا،... وكم من بئر، قد كان يزدحم عليه الخلق، لشربهم، وشرب مواشيهم، ففقد أهله، وعدم منه الوارد والصادر، وكم من قصر، تعب عليه أهله، فشيدوه، ورفعوه، وحصنوه، وزخرفوه، فحين جاءهم أمر الله، لم يغن عنهم شيئا، وأصبح خاليا من أهله، قد صاروا عبرة لمن اعتبر، ومثالا لمن فكر ونظر.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وكان منظرها هكذا موحشا كئيبا مؤثرا. داعيا إلى التأمل في صورتها الخالية وصورتها البادية. والربوع الخربة أوحش شيء للنفس وأشدها استجاشة للذكرى والعبرة والخشوع...

وإلى جوار القرى الخاوية على عروشها.. الآبار المعطلة المهجورة تذكر بالورد والوراد؛ وتتزاحم حولها الأخيلة وهي مهجورة خواء. ثم إلى جوارها القصور المشيدة وهي خالية من السكان موحشة من الأحياء، تطوف بها الرؤى والأشباح، والذكريات والأطياف...