والكاف فى قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ } بمعنى مثل ، واسم الإِشارة يعود إلى ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من عقائد وأحاكم وآداب .
أى : مثل ما فى هذه السورة الكريمة من دعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، أوحى الله به إليك وإلى الرسل من قبلك ، لتبلغوه للناس كى يعتبروا ويتعظوا .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : {
كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } كلام مستأنف ، وارد لتحقيق أن مضمون السورة ، موافق لما فى تضاعيف الكتب المنزلة ، على سائر الرسل المتقدمين فى الدعوة إلى التوحيد والإِرشاد إلى الحق .
والكاف مفعول { يوحي } أى : يوحى مثل ما فى هذه السورة من المعانى . .
وجئ بقوله : { يوحي } بدل { أوحى } للدلالة على استمراره فى الماضى ، وأن إيحاء مثله ، عادته - تعالى - :
و { العزيز الحكيم } صفتان له - عز وجل - .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }
والكاف في قوله : { كذلك } نعت لمصدر محذوف ، والإشارة بذلك تختلف بحسب الأقوال في الحروف .
وقرأ جمهور القراء : «يوحي » بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي جعفر والجحدري وعيسى وطلحة والأعمش . وقرأ أبو حيوة والأعشى عن أبي بكر عن عاصم : «نوحي » : بنون العظمة ، ويكون قوله : { الله } ابتداء وخبره : { العزيز } ويحتمل أن يكون خبره : { له ما في السماوات } . وقرأ ابن كثير وحده : «يوحَى » بالياء وفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول ، وهي قراءة مجاهد ، والتقدير : يوحى إليك القرآن يوحيه الله ، وكما قال الشاعر :
ليبك يزيد ضارع لخصومة{[10106]}
ومنه قوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال }{[10107]} .
وقوله تعالى : { وإلى الذين من قبلك } يريد من الأنبياء الذين نزلت عليهم الكتب .
موقع الإشارة في قوله : { كذلك يوحي إليك } كموقع قوله : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) . والمعنى : مِثْلَ هذا الوحي يُوحِي الله إليك ، فالمشار إليه : الإيحاء المأخوذ من فعل { يوحي } .
وأما { وإلى الذين من قبلك } فإدماج . والتشبيه بالنسبة إليه على أصله ، أي مثل وحيه إليك وحيه إلى الذين من قبلك ، فالتشبيه مستعمل في كلتا طريقتيه كما يستعمل المشترك في معنييه . والغرض من التشبيه إثبات التسوية ، أي ليس وحي الله إليك إلا على سنة وحيه إلى الرّسل من قبلك ، فليس وحيه إلى الرّسل من قبلك بأوضح من وحيه إليك . وهذا كقوله تعالى : { إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] ، أي ما جاء به من الوحي إن هو إلا مِثلُ ما جاءت به الرّسل السابقون ، فما إعراض قومه عنه إلا كإعراض الأمم السالفة عما جاءت به رسلهم . فحصل هذا المعنى الثاني بغاية الإيجاز مع حسن موقع الاستطراد .
وإجراء وصفي { العزيز الحكيم } على اسم الجلالة دون غيرهما لأن لهاتين الصفتين مزيدَ اختصاص بالغرض المقصود من أن الله يصطفي من يشاء لرسالته . ف { العزيز } المتصرف بما يريد لا يصده أحد . و { الحكيم } يُحَمِّل كلامَه معاني لا يبلغ إلى مثلها غيرُه ، وهذا من متممات الغرض الذي افتتحت به السورة وهو الإشارة إلى تحدّي المعاندين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن .
وجملة { كذلك يوحي إليك } إلى آخرها ابتدائية ، وتقديم المجرور من قوله { كذلك } على { يوحي إليك } للاهتمام بالمشار إليه والتشويق بتنبيه الأذهان إليه ، وإذ لم يتقدم في الكلام ما يحتمل أن يكون مشاراً إليه ب { كذلك } عُلم أن المشار إليه مقدر معلوم من الفعل الذي بعد اسم الإشارة وهو المصدر المأخوذ من الفعل ، أي كذلك الإيحاء يوحي إليك الله . وهذا استعمال متّبع في نظائر هذا التركيب كما تقدم في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) . وأحسب أنّه من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثله في كلام العرب قبل القرآن . وما ذكره الخفاجي في سورة البقرة من تنظيره بقول زهير :
كذلك خِيمهم ولكلِّ قوم *** إذا مسَّتهم الضّراء خِيم
لا يصحّ لأن بيْت زهير مسبوق بما يصلح أن يكون مشاراً إليه ، وقد فاتني التنبيه على ذلك فيما تقدم من الآيات فعليك بضم ما هنا إلى ما هنالك .
والجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف دلّ عليه { يوحي } أي إيحاءً كذلك الإيحاء العجيب . والعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع في قوله : { يوحي } للدلالة على أن إيحاءه إليه متجدد لا ينقطع في مدة حياته الشريفة لييأس المشركون من إقلاعه بخلاف قوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وقوله : { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً } [ الشورى : 7 ] إذ لا غرض في إفادة معنى التجدد هناك .
وأمّا مراعاة التجدّد هنا فلأنَّ المقصود من الآية هو ما أوحي به إلى محمّد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وأنَّ قوله : { إلى الذين من قبلك } إدماج .
ولك أن تعتبر صيغة المضارع منظوراً فيها إلى متعلِّقي الإيحاء وهو { إليك } و { إلى الذين من قبلك } ، فتجعل المضارع لاستحضار الصورة من الإيحاء إلى الرّسل حيث استبعد المشركون وقوعه فجعل كأنّه مشاهد على طريقة قوله تعالى : { الله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] وقوله : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] .
وقرأ الجمهور { يوحي } بصيغة المضارع المبني للفاعل واسم الجلالة فاعل . وقرأه ابن كثير { يوحَى } بالبناء للمفعول على أن { إليك } نائب فاعل ، فيكون اسم الجلالة مرفوعاً على الابتداء بجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنّه لما قال : يوحى إليك ، قيل : ومن يُوحيه ، فقيل : الله العزيز الحكيم ، أي يوحيه الله على طريقة قول ضِرار بن نَهشل{[365]} أو الحارث بن نهيك{[366]} :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإلى الذين من قبلك} من الأنبياء أنه نازل بقومهم إذا كذبوا الرسل.
ثم عظم نفسه، فقال له: يا محمد، إنما ذلك بوحي {الله العزيز} في ملكه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كَذَلَكَ يُوحِي إلَيْكَ وَإلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ" يقول تعالى ذكره: هكذا يوحِي إليك يا محمد وإلى الذين من قبلك من أنبيائه... "العَزِيزُ "في انتقامه من أعدائه "الحَكِيمُ" في تدبيره خلقه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى التشبيه في (كذلك) أن بعضه كبعض في أنه حكمة وصواب بما تضمنه من الحجج والمواعظ والفوائد التي يعمل عليها في الدنى.
(العزيز الحكيم) معناه القادر الذي لا يغالب الحكيم في جميع أفعاله، ومن كان بهاتين الصفتين خلصت له الحكمة في كل ما يأتي به؛ لأنه العزيز الذي لا يغالب والغني الذي لا يحتاج إلى شيء، ولا يجوز أن يمنعه مانع مما يريده، وهو الحكيم العليم بالأمور لا يخفى عليه شيء منها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لم يقل: أوحي إليك؛ ولكن على لفظ المضارع، ليدل على أن إيحاء مثله عادته...
هذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة، والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة {سبح اسم ربك الأعلى} أن أولها في تقرير التوحيد، وأوسطها في تقرير النبوة وآخرها في تقرير المعاد، ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال: {إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى} يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مثل ذلك، وعلى هذا النسق، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك. فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها. ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي. وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم. والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان. والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان: (إليك وإلى الذين من قبلك). إنها قصة بعيدة البداية، ضاربة في أطواء الزمان. وسلسلة كثيرة الحلقات، متشابكة الحلقات. ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع. وهذه الحقيقة -على هذا النحو- حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته، ووحدة مصدره وطريقه. وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي: (الله العزيز الحكيم).. كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن؛ وتتصل كلها بالله في النهاية، فيلتقون فيه جميعاً. وهو (العزيز) القوي القادر (الحكيم) الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير. فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله؛ ولا يعرف لها مصدر، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إجراء وصفي {العزيز الحكيم} على اسم الجلالة دون غيرهما لأن لهاتين الصفتين مزيدَ اختصاص بالغرض المقصود من أن الله يصطفي من يشاء لرسالته. ف {العزيز} المتصرف بما يريد لا يصده أحد.
و {الحكيم} يُحَمِّل كلامَه معاني لا يبلغ إلى مثلها غيرُه، وهذا من متممات الغرض الذي افتتحت به السورة وهو الإشارة إلى تحدّي المعاندين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن...
والعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع في قوله: {يوحي} للدلالة على أن إيحاءه إليه متجدد لا ينقطع في مدة حياته الشريفة؛ لييأس المشركون من إقلاعه بخلاف قوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى: 52] إذ لا غرض في إفادة معنى التجدد هناك...
ولك أن تعتبر صيغة المضارع منظوراً فيها إلى متعلِّقي الإيحاء وهو {إليك} و {إلى الذين من قبلك}، فتجعل المضارع لاستحضار الصورة من الإيحاء إلى الرّسل حيث استبعد المشركون وقوعه، فجعل كأنّه مشاهد على طريقة قوله تعالى: {الله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً} [فاطر: 9] وقوله: {ويصنع الفلك} [هود: 38]...
{كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الكاف في {كَذَلِكَ} حرف معنى يفيد التشبيه و {ذَلِكَ} إشارة إلى الحروف المقطعة السابقة، يعني بمثل هذه الحروف {يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ} فهذه الحروف من وحي الله إلى نبيه محمد، وما يأتي بعدها أيضاً من وحي الله.
والوحي: هو إعلام بخفاء من المتكلم للسامع، فلو جاءك ضيف وتريد أن تخبر خادمك بأمر دون أنْ يُحسَّ به الضيف، فإنك تنظر إلى الخادم أو تهمس إليه بطريقة ما يفهم منها ما تريد، فكأنك أوحيتَ إليه بهذا الأمر.
والوحي يقتضي: مُوحِياً، ومُوحَىً إليه، ومُوحَىً به، وقد أخبرنا الحق سبحانه أنه يوحي لمن يشاء من مخلوقاته، يوحي إلى الملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ..} [الأنفال: 12].
ويوحي للرسل: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ..} [النساء: 163].
ويوحي إلى الصالحين من عباده، كما أوحى إلى الحواريين، وكما أوحى إلى أم موسى، وأوحى للنمل، وأوحى إلى الأرض وهي جماد: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا} [الزلزلة: 5].
كذلك أخبرنا الحق سبحانه أن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعضهم، ومثلهم شياطين الإنس، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ..} [الأنعام: 121] أي: من الإنس وقال: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112] والوصف العام لكلمة الوحي أنه بخفاء، هذا في المعنى العام لكلمة الوحي، وهو يكون بالخير ويكون بالشر.
أما الوحي الشرعي المقصود هنا فالذي يكون من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الملَك جبريل عليه السلام، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
إذن: الوحي الشرعي: إعلام من الله لمن اختاره من الرسل بإحدى هذه الوسائل: أن يرسل إليه مَلَكاً أو عن طريق الإلهام، وسبق أنْ أوضحنا أن وارد الرحمن لا يصطدم بوارد الشيطان، لأن وارد الرحمن أقوى لا ينازعه شيء.
ففي قصة أم موسى، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ} [القصص: 7] الوحي هنا بمعنى ألهمها، أو نفث في روعها، أو مرَّر بخاطرها {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ} هذا أمر العقل لا يقبله، لكنه لما كان من الله لم يعارضه اختيار آخر وأذعنتْ له أم موسى ونفَّذته على الفور.
لذلك لما أراد الحق سبحانه أنْ يعلِّم صحابة رسول الله أمور دينهم أنزل إليهم جبريل في صورة رجل، وأخذ يسأل رسول الله عن الإيمان وعن الإسلام وعن الإحسان وكان يسأل ويصدق؛ لذلك تعجب منه الصحابة: كيف يسأل ويصدق، ولما انتهى الدرس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه جبريل جاء يعلمكم أمور دينكم".
وتبين هذه الآية: {كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أن الموحي هو الله عز وجل ولم تقل مثلاً ربك، فاختارت لفظ الألوهية لماذا؟ الله هو المعبود بحقٍّ، والمعبود يعني له منهج وله تكاليف فيها أوامر وفيها نواه، فعطاء الألوهية كما قلنا عطاء تكليف، أما عطاء الربوبية فتربيةً ورعاية ومنح دون مقابل.
فالحق سبحانه وتعالى في العطائيْن لا يعود عليه من العباد شيء ولا ينتفع منهم بشيء، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وما جعل التكليف والمنهج إلا لإسعاد العباد وسلامة المجتمع.
كأن الله يقول لنا: أريدكم سعداء في مجتمع نظيف طاهر يقوم على المحبة والسلام، ويخلو من الغل والحسد والنفاق، مجتمع يقول وينبه على الفضيلة ويخلو من الرذيلة، ذلكم لأنكم عبادي وصنعتي، وكل صانع يريد لصنعته الصلاح، ويربأ بها عن الفساد.
لذلك قلنا: إن الرجل العاقل لا يحقد على مَنْ هو أعلى منه في ناحية من النواحي ولا يحسده، وإذا اصطدم بظالم لا يدعو عليه إنما يدعو له، وإذا رأى فساداً أصلحه، وإذا رأى غير المسلمين تمنى لو كانوا مسلمين، لماذا؟ لأنه سيسعد بإصلاح هؤلاء، وسيجني ثمار صلاحهم واستقامتهم، وسيعود عليه خيرهم.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إشارة إلى أن الموحي بهذا الوحي والمنزِل لهذا الكتاب ولهذا المنهج (الله) أي: صاحب التكاليف والآمر بها.
الله: عَلَم على واجب الوجود، بعضهم قال: هو مشتق من أله من العبادة، ومألوه يعني معبود، وبعضهم قال: الله عَلَم على الذات، لا تجد فيه إلا صفة العَلَمية على واجب الوجود، وهذا العلم موصوف بكل صفات الكمال، فهو القوي العزيز الجبار المتكبر الرحيم الحكيم الغفور الوهاب القهار. هذه من أسماء الحق سبحانه وهي صفات كمال لاسم الله، لذلك قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَىٰ} [الإسراء: 110].
الحق سبحانه يُعلِّمنا كيف ندعوه في شتى أمورنا، فمَنْ أراد العلم يدعو العليم، ومَنْ أراد القوة يقول يا قوي قوِّني، ومَنْ أراد الحكمة يقول: يا حكيم ألهمني الحكمة، ومَنْ أراد سعة الرزق قال: يا باسط ابْسُطْ لي الرزق، فإذا أراد كلّ هذه الصفات قال: يا الله. فهو الاسم الجامع لكل صفات الكمال.
وهو سبحانه في تكاليفه لكم {الْعَزِيزُ} يعني: غالب لا يغلب، وله صفات العزة والجبروت والغنى والاستغناء عن الخلق.
ثم هو سبحانه {الْحَكِيمُ} يعني: حين كلّف كلّف بقدر وبحكمة ذلك لأن القرآن به تكاليف قد يراها البعض شاقة، لكن إذا أخذنا هذه التكاليف بمصاحبة ثمرتها والثواب عليها نجدها سهلة يسيرة لأنها تُدِر عليك نفعاً تهون أمامه كل المشاق.
ألاَ تراك تتعب في الدنيا ثم تجني من الثمار على قدر تعبك، ألاَ ترى أن نفاسة النتيجة على مقدار الكَدِّ؟ أنت في الدنيا مثلاً تزرع الفجل تجده فجلاً، وتستطيع أنْ تأكل منه بعد عدة أيام، وتزرع مثلاً الخيار وتأكل منه بعد أربعين يوماً والأرز مثلا بعد عدة شهور، وتزرع المانجو فلا تعطيك إلا بعد عدة سنوات.
إذن: إذا كلَّفك الله بشيء فيه مشقة، فاعلم أن الثمرة على قدرها، واعلم أن الذي أوحى إلى النبي بهذا التكليف عزيز حكيم، فإنْ كان شاقاً في نظرك فمُكلِّفك به غنيٌّ عنك وعن طاعتك لا يستفيد منه بشيء بل أنت المستفيد، وهو حكيم يعني كلَّفك بما يؤدي إلى سلامة حركتك في المجتمع.