التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُ ٱشۡمَأَزَّتۡ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِۖ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ} (45)

ثم بين - سبحانه - أحوال هؤلاء المشركين ، عندما يذكر - سبحانه - وحده دون أن تذكر معه آلهتهم ، كما بين أحوالهم السيئة يوم القيامة ، وكيف أنهم يندمون ولا ينفعهم الندم ، وكيف أنهم لو ملكوا فى هذا اليوم ما فى الأرض جميعا ومثله معه ، لقدموه فداء لأنفسهم من أهوال عذاب يوم القيامة . . فقال - تعالى - :

{ وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت . . . } .

قوله - تعالى - : { اشمأزت . . } أى : نفرت وانقبضت وذعرت ، مأخوذ من الشَّمْزِ ، وهو نفور النفس مما تكرهه .

قال الإِمام الرازى : أعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين وهو أنك إذا ذكرت الله وحده . . ظهرت آثار النفرة فى وجوههم وقلوبهم ، وإذا ذكرت الأًنام والأوثان ظهرت آثار الفرح . . وذلك يدل على الجهل والحماقة ، لأن ذكرالله رأس السعادة ، وعنوان الخيرات ، وأما ذكر الأصنام فهو رأس الحماقات . .

أى : إنك - أيها الرسول الكريم - إذا ذكرت الله - تعالى - وحده ، ونسبت إليه ما يليق به - سبحانه - من وحدانيته وقدرته . . دون أن ذتكر معه الأصنام اشمأزت وانقبضت وذعرت نفوس هؤلاء المشركين الجهلاء ، أما إذا ذكرت آلهتهم سواء أذكرت الله - تعالى - معها أم لم تذكره ، إذا هم يستبشرون ويبتهجون .

والتعبير بالاشمئزاز والاستبشار ، يشعر بأنهم قد بلغوا الغاية فى الأمرين ، فهم عند ذكر الله - تعالى - تمتلئ قلوبهم إلى نهايتهم غما وهما وانقباضا وذعرا . وعند ذكر أصنامهم تمتلئ قلوبهم إلى نهايتها - أيضا - بهجة وسرورا حتى لتظهر آثار ذلك على بشرتهم . . .

وحالهم هذا يدل على أنهم قد بلغوا الغاية - أيضا - فى الجهالة والسفاهة والغفلة . .

وهذا الذى ذكرته الآية الكريمة من اشمئزاز الكافرين عند ذكر الله - تعالى - واستبشارهم عند ذكر غيره ، نرى ما يشبهه عند كثير من الناس . . .

فكم من أناس إذا حدثتهم عن ذات الله - تعالى - وصفاته ، وعن سلامة دينه وتشريعاته ، وعن آداب قرآنه وهداياته ، وعن كل ما يتعلق بوجوب تنفيذ أوامره ونواهيه . . انقبضت نفوسهم ، واكفهرت وجوههم ، وتمنوا لو أنك تركت الحديث عن ذلك .

أما إذا سمعوا ما يتعلق بالتشريعات والنظم التى هى من صنع البشر - استبشرت نفوسهم ، وابتهجت أساريرهم .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } وقال الآلوسى : وقد رأينا كثيرا من النسا على نحو هذه الصفة التى وصف الله - تعالى - بها المشركين ، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم . . وينقبضون من ذكر الله - تعالى - وحده - ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه - عز وجل - وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله . وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة ، وينسبونه إلى ما يكره . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُ ٱشۡمَأَزَّتۡ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِۖ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ} (45)

وقوله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده } الآية ، قال مجاهد وغيره : نزلت في قراءة النبي عليه السلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار ، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته ، فقال : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، إنهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى } [ النجم : 19 ] فاستبشر الكفار بذلك وسروا ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان ، أنفوا واستكبروا و اشمأزت نفوسهم{[9907]} ، ومعناه تقبضت كبراً أو أنفة وكراهية ونفوراً ، ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]

إذا عض الثقاف بها اشمأزت . . . وولته عشوزنة زبونا{[9908]}

و : { الذين من دونه } يريد الذين يعبدون من دونه ، وجاءت العبارة في هذه الآية عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل ، ونسب إليها الضر والنفع والألوهية ، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل . و : { وحده } منصوب عند سيبويه على المصدر ، وعند الفراء على الحال .


[9907]:حديث الغرانيق هذا فيه كلام كثير يؤكد انه غير صحيح، قال عنه ابن عطية في سورة الحج:"لم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور"، وقال فيه القاضي عياض:"لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند صحيح سليم متصل ثقة"، وقال أبو بكر البزار:"وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره". ونكتفي بهذا، ويمكنك الرجوع إلى تفسير الآية(52) من سورة (الحج).
[9908]:البيت من معلقة عمرو بن كلثوم، وقبله يقول مخاطبا الملك عمرو بن هند: فإن قناتنا يا عمرو أعيت على الأعداء قبلك أن تلينا وفيه استعار لعزتهم اسم القناة، فقال: إن عزنا يا عمرو منيع لا يرام، وقد أعجز أعداؤنا قبلك عن خفض شوكتنا، والضمير في (بها) في البيت يعود على (القناة) في البيت السابق، والثقاف: الحديدة التي يُقوّم بها الرمح، والعشوزنة: الصلبة القوية، والزبون: الدفوع. جعل القناة التي لا يمكن تقويمها ولا إصلاح ما فيها مثلا لعزتهم التي لا تتضعضع، فإذا حاول أحد إصلاحها او تقويمها نفرت، وظلت كما هي شديدة صلبة دفوعا. والشاهد أن الاشمئزاز معناه: النفور والإباء والكبر.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُ ٱشۡمَأَزَّتۡ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِۖ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ} (45)

عطف على جملة { اتخذوا من دون الله شفعاء } [ الزمر : 43 ] لإِظهار تناقضهم في أقوالهم المشعر بأن ما يقولونه أقضية سُفسطائية يقولونها للتنصل من دمغات الحجج التي جبهَهُم بها القرآن ، فإنهم يعتذرون تارة على إشراكهم بأن شركاءهم شفعاء لهم عند الله . وهذا يقتضي أنهم معترفون بأن الله هو إلههم وإله شركائهم ، ثم إذا ذكَر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله واحد أو ذكر المسلمون كلمة لا إله إلا الله اشمأزّت قلوب المشركين من ذلك . وكذلك إذا ذكر الله بأنه إله الناس ولم يذكر مع ذكره أن أصنامهم شركاء لله اشمأزت قلوبهم من الاقتصار على ذكر الله فلا يرضون بالسكوت عن وصف أصنامهم بالإِلهية وذلك مؤذن بأنهم يسوُّونها بالله تعالى .

فقوله : { وحْدَهُ } لك أن تجعله حالاً من اسم الجلالة ومعناه منفرداً . ويقدر في قوله : { ذُكِر الله } معنى : ذكر بوصف الإِلهية ويكون معنى { ذُكِر الله وَحْده } ذُكر تفرده بالإلهية . وهذا جار على قول يونس بن حبيب في { وحده } . ولك أن تجعله مصدراً وهو قول الخليل بن أحمد ، أي هو مفعول مطلق لفعللِ { ذُكِرَ } لبيان نوعه ، أي ذِكْراً وحْداً ، أي لم يذكر مع اسم الله أسماء أصنامهم . وإضافة المصدر إلى ضمير الجلالة لاشتهار المضاف إليه بهذا الوحْد . وهذا الذكر هو الذي يجري في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصلوات وتلاوة القرآن وفي مجامع المسلمين .

ومعنى { إذا ذُكر الذين من دونه } إذا ذُكرت أَصنامهم بوصف الإِلهية وذلك حين يسمعون أقوال جماعة المشركين في أحاديثهم وأيمانهم باللات والعزى ، أي ولم يذكر اسم الله معها فاستبشارهم بالاقتصار على ذكر أصنامهم مؤذن بأنهم يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تعالى . والذكر : هو النطق بالاسم . والمراد إذا ذكَر المسلمون اسم الله أشمأز المشركون لأنهم لم يسمعوا ذكر آلهتهم وإذا ذكر المشركون أسماء أصنامهم استبشر الذين يسمعونهم من قومهم . والتعبير عن آلهتهم ب { الذين من دونه } دونَ لفظ : شركائهم أو شفعائهم ، للإِيماء إلى أن علة استبشارهم بذلك الذكر هو أنه ذكر من هم دون الله ، أي ذِكر مناسب لهذه الصلة ، أي هو ذكر خاللٍ عن اسم الله ، فالمعنى : وإذا ذكر شركاؤُهم دُون ذِكر الله إذا هم يستبشرون .

والاقتصار على التعرض لهذين الذكرين لأنهما أظهر في سوء نوايا المشركين نحو الله تعالى ، وفي بطلان اعتذارهم بأنهم ما يعبدون الأصنام إلا ليقربُّوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده ، فأما الذكر الذي يذكر فيه اسم الله وأسماءُ آلهتهم كقولهم في التلبية : لبَيْك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملِكه وما ملك ، فذلك ذكر لا مناسبة له بالمقام .

وذكَر جمع من المفسرين لقوله : { إذا ذكر الذين من دونه } أنه إشارة إلى ما يُروى من قصة الغرانيق ، ونسب تفسير ذلك بذلك إلى مجاهد ، وهو بعيد عن سياق الآية .

ومن البناء على الأخبار الموضوعة فللَّه در من أعرضوا عن ذكر ذلك .

والاشمئزار : شدة الكراهية والنفورِ ، أي كرهتْ ذلك قلوبهم ومداركهم .

والاستبشار : شدة الفرح حتى يظهر أثر ذلك على بَشَرة الوجه ، وتقدم في قوله : { وجاء أهل المدينة يستبشرون } في سورة [ الحِجر : 67 ] .

ومقابلة الاشمئزاز بالاستبشار مطابقة كاملة لأن الاشمئزاز غاية الكراهية والاستبشار غاية الفرح .

والتعبير عن المشركين بالذين لا يؤمنون بالآخرة } لأنهم عُرفوا بهذه الصلة بين الناس مع قصد إعادة تذكيرهم بوقوع القيامة .

و { إذا } الأولى و { إذا } الثانية ظرفان مضمنان معنى الشرط كما هو الغالب . و { إذا } الثالثة للمفاجأة للدلالة على أنهم يعاجلهم الاستبشار حينئذٍ من فرط حبهم آلهتهم . ولذلك جيء بالمضارع في { يستبشرون } دون أن يقال : مستبشرون ، لإِفادة تجدّد استبشارهم .