وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ . . . } جواب القسم ، والمراد بالإِنسان : جنسه ، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا . والخسر مثل الخسران ، كالكفر بمعنى الكفران . .
أى : إن جنس الإِنسان لا يخلو من خسران ونقصان وفقدان للربح فى مساعيه وأعماله طوال عمره ، وإن هذا الخسران يتفاوت قوة وضعفا .
فأخسر الأخسرين هو الكافر الذى أشرك مع خالقه إلها آخر فى العبادة ، وأقل الناس خسارة هو المؤمن الذى خلط عملا صالحا بآخر سيئا ، ثم تاب إلى الله - تعالى - توبة صادقة .
وجاء الكلام بأسلوب القسم ، لتأكيد المقسم عليه ، وهو أن جنس الإِنسان فى خسر .
وقال - سبحانه - : { لَفِى خُسْرٍ } للإِشعار بأن الإِنسان كأنه مغمور بالخسر ، وأن هذا الخسران قد أحاط به من كل جانب ، وتنكير لفظ " خسر " للتهويل ، أي : لفي خسر عظيم .
و { الإنسان } اسم الجنس ، و «الخسر » : النقصان وسوء الحال ، وذلك بين غاية البيان في الكافر ؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .
وأما المؤمن وإن كان في خسر دنياه في هرمه وما يقاسيه من شقاء هذه الدار ، فذلك معفو عنه في جنب فلاحه في الآخرة وربحه الذي لا يفنى ، ومن كان في مدة عمره في التواصي بالحق والصبر والعمل بحسب الوصاة فلا خسر معه ، وقد جمع له الخير كله ، وقرأ علي بن أبي طالب : «والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان » ، وفي مصحف عبد الله : «والعصر لقد خلقنا الإنسان في خسر » ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ «إن الإنسان لفي خسر وإنه فيه إلى آخر الدهر إلا الذين » ، وقرأ عاصم والأعرج : «لفي خسُر » بضم السين ، وقرأ سلام أبو المنذر : «والعصِر » بكسر الصاد ، «وبالصبر » بكسر الباء ، وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة ، وروي عن أبي عمرو : «بالصبِر » بكسر الباء إشماماً ، وهذا أيضاً لا يكون إلا في الوقف . نجز تفسير سورة { العصر } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول : إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان . وكان عليّ رضي الله عنه يقرأ ذلك : «إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، وإنه فيه إلى آخر الدهر » . ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن الدنيا وما فيها كأنها خلقت ، وأنشئت متجرا للخلق ، والناس فيها تجار كما ذكر في غير آية من القرآن ، قال الله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } ( التوبة : 111 ) وقال : { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } ( الصف : 10 ) أي { إن الإنسان لفي خسر } من تجارته ومبايعته . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
يعني بالإنسان جنس الناس . وفي الخسر أربعة أوجه :
أحدها : لفي هلاك ، قاله السدي .
الثاني : لفي شر ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : لفي نقص ، قاله ابن شجرة .
الرابع : لفي عقوبة ، ومنه قوله تعالى : { وكان عاقبة أمْرِها خُسْراً } ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
جواب القسم . وفيه إخبار من الله أن الإنسان -يعني الكافر- { لفي خسر } أي لفي نقصان بارتكاب المعاصي ، وكفره بالله . والخسر هلاك رأس المال للإنسان ، وبارتكاب المعاصي في هلاك نفسه خسران ، وهو أكبر من رأس ماله . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الخسر » : النقصان وسوء الحال ، وذلك بين غاية البيان في الكافر ؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين . وأما المؤمن وإن كان في خسر دنياه في هرمه وما يقاسيه من شقاء هذه الدار ، فذلك معفو عنه في جنب فلاحه في الآخرة وربحه الذي لا يفنى ، ومن كان في مدة عمره في التواصي بالحق والصبر والعمل بحسب الوصاة فلا خسر معه ، وقد جمع له الخير كله ، ...
... واعلم أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر؛
( أحدها ) : قوله : { لفي خسر } يفيد أنه كالمغمور في الخسران ، وأنه أحاط به من كل جانب.
( وثانيها ) : كلمة إن ، فإنها للتأكيد.
( وثالثها ) : حرف اللام في { لفي خسر } ، وههنا احتمالان :
الأول : في قوله تعالى : { لفي خسر } أي في طريق الخسر ، وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } لما كانت عاقبته النار .
الاحتمال الثاني : أن الإنسان لا ينفك عن خسر ، لأن الخسر هو تضييع رأس المال ، ورأس ماله هو عمره ، وهو قلما ينفك عن تضييع عمره ، وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان ؛ فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران ، وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضا حاصل ، لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر ، مع أنه كان متمكنا من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائما ، وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها ، أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك ، لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية ...
فإن قيل : إنه تعالى قال في سورة التين { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان ، وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال ، فكيف وجه الجمع ؟
قلنا : المذكور في سورة التين أحوال البدن ، وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين ....
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومن باع آخرته بدنياه فهو في غاية الخسران ، بخلاف المؤمن ، فإنه اشترى الآخرة بالدنيا ، فربح وسعد . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إن الإنسان } أي هذا النوع الذي هو أشرف الأنواع ، لكونه في أحسن تقويم ، كما أن العصر خلاصة الزمان ، والعصر يكون لاستخراج خلاصات الأشياء { لفي خسر } أي نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم ، وصرف أعصارهم في أغراضهم ، لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر ، والإعراض عن الغائب ، والاغترار بالفاني ، أعم من أن يكون الخسر قليلاً أو جليلاً بحسب تنوع الناس إلى أكياس وأرجاس ، فمن كان كافراً كان في كفران ، ومن كان مؤمناً عاصياً كان في خسران إن كان بالغاً في المعصية ، وإلا كان في مطلق الخسر ، وهو مدلول المصدر المجرد ....{ والعصر إن الإنسان لفي خسر } فالقصور شأنه ، والظلم طبعه ، والجهل جبلته ، فيحق أن يلهيه التكاثر ، ولا يدخل الله عليه روح الإيمان { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } إلى آخرها ، فهؤلاء الذين { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله }[ النور : 37 ] انتهى . ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
و{ إن الإنسان لفي خسر } ، جواب القسم ، والخسر : قيل : هو الغبن ، وقيل : النقص ، وقيل : العقوبة ، وقيل : الهلكة ، والكل متقارب . وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ، النقص من رأس المال ، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ؛ بل أطلق ليعم ، وجاء بحرف الظرفية ، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة . ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها ، لاتّضح هذا العموم ؛ لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور : عدم الإيمان وهو الكفر ، وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد ، وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية ، أو التواصي بالباطل ، وعدم التواصي بالصبر ، وهو إما انعدام التواصي كلية ، أو الهلع والجزع ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى : تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة . تضعف قواه المادية والمعنوية . تتناقص قدرته باستمرار . نعم ، إنّه كشخص عنده ثروة عظيمة ، وهذه الثروة يؤخذ منها كلّ يوم شيء باستمرار رغم إرادته ، هذه طبيعة الحياة الدنيوية . . . طبيعة الخسران المستمر ! القلب له قدرة معينة على الضربان ، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض . هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض . وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان ، وثروات قدراته المختلفة . «خُسر » وخُسران ، كما يقول الراغب ، انتقاص رأس المال ، وينسب ذلك إلى الإنسان ، فيقال : خَسِرَ فلان ، وإلى الفعل فيقال : خسرت تجارته . قال تعالى : { تلك إذن كرة خاسرة } ، ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر ، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهو الذي جعله اللّه تعالى الخسران المبين ، وقال : { الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين } . ... على أي حال ، الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة ...
الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول : كلّ النّاس في هذه السوق الكبرى خاسرون ، إلاّ مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية . ...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.