وبعد أن بين القرآن الكريم فرق اليهود ، توعد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه بسوء المصير فقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } :
والمعنى : فهلاك وفضيحة وخزى لأولئك الأحبار من اليهود الذين يكتبون الكتابات المحرفة والتأويلات الفاسدة بأيديهم ، بدلا مما اشتملت عليه الكتب من حقائق ، ثم يقولون لجهالهم ومقلديهم كذباً وبهتاناً هذا من عند الله ، ومن نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ليأخذوا في نظير ذلك عرضاً يسيراً من حطام الدنيا ، فعقوبة عظيمة لهم بسبب ما قاموا به من تحريف وتبديل لكلام الله ، وخزى كبير لهم من أجل ما اكتسبوه من أموال بغير حق .
فالآية الكريمة فيها تهديد شديد لأحبار اليهود الذين تجرءوا على كتاب الله بالتحريف والتبديل ، وباعوا دينهم بدنياهم ، وزعموا أن ما كتبوه هو من عند الله .
وصرح - سبحانه - بأن الكتابة ب { أَيْدِيهِمْ } ليؤكد أنهم قد باشروها عن تعمد وقصد ، وليدفع توهم أنهم أمروا غيرهم بكتابتها ، ولتصور حالتهم في النفوس كما وقعت ، حتى ليكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً لهيئتهم .
وقوله تعالى : { ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله } كشف عن كذبهم وفجورهم ، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ثم يزعمون أنه من عند الله ليتقبله أتباعهم بقوة واطمئنان .
ثم بين - سبحانه - العلة التي حملنه على التحريف والكذب فقال تعالى : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي كتبوا الكتابة بأيديهم ، ونسبوها إلى الله زوراً وبهتاناً ؛ ليحصلوا على عرض قليل من أعراض الدنيا ، كاجتلاب الأموال الحرام ، وانتحال العلم لأنفسهم والطمع في الرئاسة والجاه ، وإرضاء العامة بما يوافق أهواءهم .
وعبر - سبحانه - عن الثمن بأنه قليل ، لأنه مهما كثر فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب ، وحرموه من الثواب المقيم .
وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } تهديد لهم مرتب على كتابة الكتاب المحرف ، وعلى أكلهم أموال الناس بالباطل ، فهو وعيد لهم على الوسيلة - وهي الكتابة - وعلى الغاية - وهي أخذ المال بغير حق - .
قال الشيخ القاسمي : قال الراغب : فإن قيل : لم ذكر { يَكْسِبُونَ } بلفظ المستقبل ، و { كَتَبَتْ } بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيهاً على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فنبه بالآية إلى أن ما أثبتوه من التأويلات الفاسدة التي يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا ، وعبر بالكتابة دون القول لأنها متضمنة له وزيادة ، فهي كذب باللسان واليد . وكلام اليد يبقى رسمه ، أما القول فقد يضمحل أثره " .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود برذيلة التحريف لكلام الله عن تعمد وإصرار ووصفتهم بالنفاق والخداع ، ووبختهم على بلادة أذهانهم وسوء تصورهم لعلم الله - تعالى - وتوعدتهم بسوء المصير جزاء كذبهم على الله .
قوله عز وجل : ( {[848]} )
{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } ( 79 )
{ الذين } في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء ، قال الخليل : الويل شدة الشر ، وقال الأصمعي : الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له ، ويجمع على ويلات ، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع ، لأنه يقتضي الوقوع( {[849]} ) ، ويصح النصب على معنى الدعاء( {[850]} ) أي ألزمه الله ويلاً ، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى ، وقد فرق بينها قوم( {[851]} ) ، وروى سفيان وعطاء بن يسار( {[852]} ) أن الويل في هذه الآية : واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وادٍ في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفاً( {[853]} ) ، وقال أبو عياض : إنه صهريج في جهنم ، وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من جبال النار( {[854]} ) . وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم ، و { الذين يكتبون } : هم الأحبار الذين بدلوا التوراة .
وقوله تعالى : { بأيديهم } بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله ، وفرق بين من كتب وبين من أمر ، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله ، وإن كان رأياً له ، وقال ابن السراج : هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم( {[855]} ) ، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم ، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم ، وقال ابن إسحاق : كانت صفته في التوراة أسمر ربعة ، فردوه آدم طويلاً ، وذكر السدي أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله ، وتناسق( {[856]} ) هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم .
والثمن قيل عرض الدنيا ، وقيل الرشا( {[857]} ) والمآكل التي كانت لهم ، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراماً ، وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها( {[858]} ) ، { يكسبون } معناه من المعاصي والخطايا ، وقيل من المال الذي تضمنه ذكر الثمن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.