التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (161)

ثم ختمت السورة الكريمة بخمس آيات جامعة لوجوه الخير ، من تأملها تجلى له أنها ختام حكيم يناسب هذه السورة التى هى سورة البلاغ والإعلان ، والمبادىء العليا لدعوة الإيمان .

أما الآيات الخمس فهى قوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّنِي . . . } .

أى : قل يا محمد لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ولغيرهم ممن أرسلت إليهم ، قل لهم جميعاً : لقد هدانى خالقى ومربينى إلى دين الإسلام الذى ارتضاه لعباده { دِيناً قِيَماً } أى : ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع والكتب .

وقوله { دِيناً } نصب على البدل من محل { إلى صِرَاطٍ } لأن معناه هدانى صراطاً ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور . أى : عرفنى ديناً .

وقوله { قِيَماً } صفى ل { دِيناً } والقَيِّم والقِيَم لغتان بمعنى واحد وقرىء بهما .

وقوله { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } منصوب بتقدير أعنى أو عطف بيان ل { دِيناً } و { حَنِيفاً } حال من إبراهيم . أى : هدانى ربى ووفقنى إلى دين الإسلام الذى هو الصراط المستقيم والدين القيم المتفق مع ملة إبراهيم الذى كان مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق ، والذى ما كان أبدا { مِنَ المشركين } مع الله آلهة أخرى فى شأن من شئونه . لا كما يزعم المشركون وأهل الكتاب أن إبراهيم كان على دينهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (161)

{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج . { دينا } بدل من محل إلى صراط إذ المعنى ، هداني صراطا كقوله : { ويهديكم صراطا مستقيما } أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ .

{ قيما } فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي { قيما } على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعل لإعلال فعله كالقيام . { ملة إبراهيم } عطف بيان لدينا . { حنيفا } حال من إبراهيم . { وما كان من المشركين } عطف عليه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (161)

استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين ، وما تخلّلها ، إلى فذلكة ما أُمر به الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشّأن ، غَلقاً لباب المجادلة مع المعرضين ، وإعلاناً بأنّه قد تقلّد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلّدوه وأنَّه ثابت على ما جاءهم به ، وأنّ إعراضهم لا يزلزله عن الحقّ .

وفيه إيذان بانتهاء السّورة لأنّ الواعظ والمناظر إذا أشبع الكلام في غرضه ، ثمّ أخذ يبين ما رَضِيه لِنفسه وما قَرّ عليه قَراره ، علم السّامع أنَّه قد أخذ يطوي سجلّ المحاجّة ، ولذلك غيّر الأسلوب . فأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه ، وتكرّر الأمر بالقول ثلاث مرّات تنويهاً بالمقول .

وقوله : { إنني هداني ربي } متصل بقوله : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] الذي بيّنه بقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] فزاده بياناً بقوله هذا : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } ، ليبيّن أنّ هذا الدّين إنَّما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم بهدي من الله ، وأنَّه جعله ديناً قيّماً على قواعد ملّة إبراهيم عليه السّلام ، إلاّ أنَّه زائد عليه بما تضمّنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصّراط الذي هو سبيل النّجاة . وافتُتح الخبر بحرف التّأكيد لأنّ الخطاب للمشركين المكذّبين .

وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرّسول صلى الله عليه وسلم للَّه تعالى ، وتعريضاً بالمشركين الذين أضلّهم أربابهم ، ولو وحّدوا الربّ الحقيق بالعبادة لهداهم .

وقوله : { هداني ربي إلى صراط مستقيم } تمثيليّة : شبّهت هيئة الإرشاد إلى الحقّ المبلّغ إلى النّجاة بهيئة من يدلّ السّائر على الطّريق المبلّغة للمقصود .

والمناسبة بين الهداية وبين الصّراط تامّة ، لأنّ حقيقة الهداية التّعريف بالطّريق ، يقال : هو هاد خِرّيت ، وحقيقة الصّراط الطّريق الواسعة . وقد صحّ أن تستعار الهداية للإرشاد والتّعليم ، والصّراطُ للدين القويم ، فكان تشبيهاً مركّباً قابلاً للتفكيك وهو أكمل أحوال التّمثيليّة .

ووُصف الصّراط بالمستقيم ، أي الذي لا خطَأ فيه ولا فساد ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] ، والمقصود إتمام هيئة التّشبيه بأنَّه دين لا يتطرّق متّبعه شكّ في نفعه كما لا يتردّد سالك الطّريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحيَّر في أمره .

وفي قوله : { ديناً } تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبّه ، وانتصب على الحال من : { صراط } لأنَّه نكرة موصوفة .

والدّين تقدّم عند قوله تعالى : { إن الدِّين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وهو السّيرة التي يتّبعها النّاس .

والقَيِّم بفتح القاف وتشديد الياء كما قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب : وصف مبالغة قَائم بمعنى معتدل غير معوج ، وإطلاق القيام على الاعتدال والاستقامة مجاز ، لأنّ المرء إذا قام اعتدلت قامته ، فيلزم الاعتدال القيام .

والأحسن أن نجعل القيم للمبالغة في القيام بالأمر ، وهو مرادف القيّوم ، فيستعار القيام للكفاية بما يحتاج إليه والوفاء بما فيه صلاح المقوّم عليه ، فالإسلام قيّم بالأمّة وحاجتها ، يقال : فلان قيّم على كذا ، بمعنى مدبّر له ومصلح ، ومنه وصف الله تعالى بالقيُّوم ، وهذا أحسن لأنّ فيه زيادة على مفاد مستقيم الذي أخذ جزءاً من التّمثيليّة ، فلا تكون إعادة لبعض التّشبيه .

وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، والكسائي ، وخلف : { قيماً } بكسر القاف وفتح الياء مخفّفة وهو من صيغ مصادر قام ، فهو وصف للدّين بمصدر القيام المقصودِ به كفاية المصلحة للمبالغة ، وهذه زنة قليلة في المصادر ، وقَلْبُ واوه ياء بعد الكسرة على غير الغالب : لأنّ الغالب فيه تصحيح لامِه لأنَّها مفتوحة ، فسواء في خفّتِها وقوعها على الواو أو على الياء ، مثل عِوَض وحِوَل ، وهذَا كشذوذ جياد جمع جواد ، وانتصب { قيماً } على الوصف ل { دينا } .

وقوله : { ملة إبراهيم } حال من : { ديناً } أو من : { صراط مستقيم } أو عطفُ بيان على { ديناً } .

والملّة ، الدّين : فهي مرادفة الدين ، فالتَّعبير بها هنا للتَّفنّن ألا ترى إلى قوله تعالى : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين } [ البقرة : 132 ] .

و { ملّة } فِعْلة بمعنى المفعول ، أي المملول ، من أمللت الكتاب إذا لقَّنت الكاتب ما يَكتب ، وكان حقّها أن لا تقترن بهاء التّأنيث لأنّ زنة ( فِعْل ) بمعنى المفعول تلزم التّذكير ، كالذِّبح ، إلاّ أنَّهم قرنوها بهاء التّأنيث لما صيّروها اسماً للدّين ، ولذلك قال الرّاغب : الملّة كالدّين ، ثمّ قال : « والفرق بينها وبين الدّين أنّ الملّة لا تضاف إلاّ إلى النَّبيء الذي تسند إليه نحو ملّة إبراهيم ، ملّة آبائي ، ولا توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمّة ، ولا تستعمل إلاّ في جملة الشّريعة دون آحادها لا يقال الصّلاة ملّة الله » أي ويقال : الصّلاةُ دين الله ذلك أنَّه يراعى في لفظ الملّة أنَّها مملول من الله فهي تضاف للّذي أُمِلَّت عليه .

ومعنى كون الإسلام ملّةَ إبراهيم : أنَّه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي : التّوحيد ، ومسايرة الفطرة ، والشّكر ، والسّماحة ، وإعلان الحقّ ، وقد بيَّنتُ ذلك عند قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً } في سورة آل عمران ( 67 ) .

والحنيف : المُجانب للباطل ، فهو بمعنى المهتدي ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { قل بل مِلَّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } في سورة البقرة ( 135 ) . g وهو منصوب على الحال .

وجملة : { وما كان من المشركين } عطف على الحال من { إبراهيم } عليه السّلام المضاف إليه ، لأنّ المضاف هنا كالجزاء من المضاف إليه ، وقد تقدّم في آية سورة البقرة .