التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

ثم عادت السورة بعد ذلك إلى تكملة الحديث عن أحوال المشركين السيئة ، وعن وجوب مقاتلتهم ، فقال تعالى . { إِنَّ عِدَّةَ الشهور . . . . القوم الكافرين } .

قال صحاب المنار ، هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين ، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح ، وسقوط عصبية الشرك ، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين - في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد ، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم ، وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية ، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية ، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإِنذار موجهاً إلينا وإليهم جميعاً . .

والعدة - في قوله . إن عدة الشهور - : على وزن فعله من العدد وهى بمعنى المعدود . قال الراغب : العدة : هي الشئ المعدود ، قال - تعالى { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى : وما جعلنا عددهم إلا قتنة للذين كفروا . .

والشهور : جمع شهر . والمراد بها هنا : الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وهى شهور . المحرم . وصفر . وربيع الأول . . الخ .

وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية ، وبها يعتد المسلمون في عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم .

والمراد بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض } : الوقت الذي خلقهما فيه ، وهو ستة أيام كما جاء في كثير من الآيات ، ومن ذلك قوله - تعالى - { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } والمعنى : إن عدد الشهور { عِندَ الله } أى : في حكمه وقضائه { اثنا عَشَرَ شَهْراً } هي الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية .

وقوله { فِي كِتَابِ الله } ، أى : في اللوح المحفوظ .

قال القرطبى : وأعاده بعد أن قال { عِندَ الله } لأن كثيراً من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله ، كقوله { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } وقيل معنى { فِي كِتَابِ الله } أى فيما كتبه - سبحانه - وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السماوات والأرض .

قال الجمل : وقوله . { فِي كِتَابِ الله } صفة لاثنى عشر ، وقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض } متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار ، أو بالكتاب ، إن جعل مصدرا .

والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة أى : أن المقصود من هذه الآية الكريمة ، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته - سبحانه في اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم ، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع . . فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور ، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها ، أو انتهاك حرمة المحرم منها .

وقوله : { حُرُمٌ } جمع حرام - كسحب جمع سحاب - مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى - أوجب على الناس احترام هذه الشهور ، ونهى عن القتال فيها :

وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

فقد أخرج البخارى عن أبى بكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبة حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم . ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .

وسماه - صلى الله عليه وسلم - رجب مبضر ، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً وكانت قبيلة مضر تحرم رجباً نفسه ، لذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيه " ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .

قال ابن كثير . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاث سرد . وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهراً وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذى الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ، ويشتغلون بأداء المناسك ، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم ، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا .

واسم الإِشارة في قوله : { ذلك الدين القيم } يعود إلى ما شعره الله - تعالى - من أن عدة الشهور أئنا عشر شهراً ، ومن أن منها أربعة حرم .

والقيم : القائم الثابت المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج أى : ذلك الذي شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك ، ومن كون منها أربعة حرم : هو الدين القويم ، والشرع الثابت الحكيم ، الذي لا يقبل التغيير أو التبديل . . لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم ، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم .

والضمير المؤنث في قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى : فلا تظلموا في الشهور الاثنى عشر أنفسهم ، بأن تفعلوا فيها شيئاً مما نهى الله عن فعله ، ويدخل في هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا .

ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم ، لأنه إليها أقرب ؛ لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها .

وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال في ذلك عندى بالصواب قول من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظم حرمتها .

وعن قتادة : إن الله اصطفى صفيا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، واصطفى من الكلام ذكره ، واطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم . . فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة .

قيل : ليس ذلك كذلك ، بلذلك حرام علينا في كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهم على سائر شهور لاسنة : فخص الذنب فيهن ، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف ، وذلك نظير قوله - تعالى - { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى - زادها تعظيما ، وعلى المحافظة عليها توكيداً ، وفى تضييعها تشديداً ، فكذلك في قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } .

وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن ، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه .

وقال القرطبى : لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول : للبارى - تعالى - أن يفعل ما شاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة ، ولا عليه حجر ، بل يفعل ما ريد بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى .

وقوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعه ، وعزيمة صادقة .

وكلمة { كَآفَّةً } مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في { قَاتِلُواْ } أو من المفعول وهو لفظ المشركين . ومعناها : جميعا .

وقالوا : وهذه الكلمة من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهى ملزمة للإفراد والتأنيث مثل : عامة وخاصة .

أى : قاتلوا - أيها المؤمنون - المشركين جميعا ، كما يقاتلونكم هم جيمعا ، بأن تكونوا في قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين . لا مختلفين ولا متخاذيلن .

وقوله : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم في قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به .

أى : واعلموا - أيها المؤمنون أن الله تعالى - مع عباده المتقين بالعون ولانصر والتأييد ، ومن كان الله معه فلن يغلبه شئ فكونوا - أيها المؤمنين من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه ؛ لتنالوا عونه وتأدييده .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

{ إن عدة الشهور } أي مبلغ عددها . { عند الله } معمول عدة لأنها مصدر . { اثنا عشر شهرا في كتاب الله } في اللوح المحفوظ ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر ، وقوله : { يوم خلق السماوات والأرض } متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدرا والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة . { منها أربعة حُرمٌ } واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . { ذلك الدين القيّم } أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما . { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة ، وأولو الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام ، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة ) . { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال . { واعلموا أن الله مع المتقين } بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحِل وتحليل شهور الحرمة ، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس ، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا ، وكان بنو فقيم{[5634]} من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عيه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم خلف ابنه قلع بن عباد ، ثم خلفه ابنة أمية بن قلع ، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية ، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام ، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة ، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين ، فقالوا أنسئنا شهراً أي آخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ، قال مجاهد : ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ثم يسمون ، ربيعاً ، ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا ، ففي هذا قال الله عز وجل { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } أي ليست ثلاثة عشر شهراً ، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً ، قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء ، وبعد ذلك يبدلون ، فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان{[5635]} وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه :«أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم » .

قال القاضي أبو محمد : ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة ، والذي ذكرناه هو بيانها ، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة ، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء ، ولما كانت سنة العرب هلالية بدأ العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر ، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها ، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعاً منها ، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق ، فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش ، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي [ عوف بن الأحوص العامري ] : الوافر ]

وشهر بني أمية والهدايا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

****** . . {[5636]}

البيت ؛ قال الأصمعي : يريد رجباً ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عْشر شهراً » بسكون العين{[5637]} وذلك تخفيف لتوالي الحركات ، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر{[5638]} وقوله { في كتاب الله } أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض ، «والكتاب » الذي هو المصدر هو العامل في { يوم } وفي قوله { في كتاب الله } متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه ، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع ، وتأمل ، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «إن »{[5639]} وقوله { منها أربعة حرم } نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها ، قال قتادة : اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلاً ومن الشهور المحرم ورمضان ، ومن البقع المساجد ، ومن الأيام الجمعة ، ومن الليالي ليلة القدر ، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله ، وقوله { ذلك الدين القيم } ، قالت فرقة : معناه الحساب المستقيم ، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي : معناه القضاء المستقيم .

قال القاضي أبو محمد : والأصوب عندي أن يكون الدين ها هنا على أشهر وجوهه ، أي ذلك الشرع والطاعة لله ، { القيم } أي القائم المستقيم ، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم ، وقوله { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الضمير عائد على ال { اثنا عشر شهراً } ، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله ، وقال قتادة : الضمير عائد على الأربعة الأشهر{[5640]} ، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهياً عنه في كل الزمن ، وزعم النحاة أن العرب تكنى عما دون العشرة من الشهور ، فيهن وعما فوق العشرة فيها ، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا ، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له ، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل » . ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن ، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة .

قال القاضي أبو محمد : وقوله { وقاتلوا المشركين } معناه فيهن فأحرى في غيرهن ، وقوله { كافة } معناه جميعاً وهو مصدر في موضع الحال ، قال الطبري : كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة ، ويظهر أيضاً أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها ، وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها ، فاللفظة على هذا اسم فاعل ، وقال بعض الناس : معناه يكف بعضهم بعضاً عن التخلف ، وما قدمناه أعم وأحسن ، وقال بعض الناس : كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر ، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة ، ثم قيدها بقوله { كما يقاتلونكم } فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم ، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير ، وقوله { واعلموا أن الله مع المتقين } خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد .


[5634]:- بضم الفاء وفتح القاف بعدهما ياء ساكنة، والقلمّس بفتح القاف واللام وتشديد الميم، وكان القلمّس هذا يقوم بعد صدورهم من منى فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنشئنا شهرا، أي أخّر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم***الخ.
[5635]:- الحديث رواه الإمام أحمد عن أبي بكرة، ورواه البخاري في التفسير وغيره، ورواه مسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، وابن جرير عن أبي هريرة، ورواه البزار عن محمد بن معمر، ورواه ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو ثابت في كتب التفسير والسير من طرق عدة.
[5636]:- هذا شطر بيت قاله عوف بن الأحوص العامري ضمن أبيات يهجو بها رجلا من بني الحارث بن كعب، وهي: وإني والذي حجت قريش محارمه وما جمعت حراء وشهر بني أمية والهدايا إذا حبست مضرجها الدماء أذمك ما ترقرق ماء عيني علي إذا من الله العفــاء ومضرجها: اسم فاعل، "والدماء" فاعله، و"ها" عائدة على الهدايا، وهو منصوب على الحال من ضمير الهدايا في "حُبست"، وهو جائز لأن إضافة الصفة كاسم الفاعل إلى معمولها ليست محضة فلا تفيد تعريفا (راجع همع الهوامع 2/ 47) وأذمك معناها: لا أذمك.
[5637]:- قرأ بها أيضا هبيرة عن حفص كما قال في "البحر المحيط"، قال: بإسكان العين مع إثبات الألف، وهو جمع بين ساكنين على غير حده، كما روي: "التقت حلقتا البطان" بإثبات ألف "حلقتا".
[5638]:- الأولى من قوله تعالى في الآية (4) من سورة (يوسف): {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}، والثانية من قوله تعالى في الآية (30) من سورة (المدثر): {عليها تسعة عشر}. ولكن لا يوجد هنا التقاء بين ساكنين.
[5639]:- وهو {اثنا عشر شهرا}، وهذا هو رأي أب علي، وقد نقله عنه أيضا أبو حيان في "البحر" وعلق عليه بقوله: "وهو كلام صحيح"
[5640]:- والسبب أنه إليها أقرب، ولأن لها مزية في تعظيم الظلم لقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، وليس المعنى أن الظلم في غير هذه الأيام جائز، بل هو حرام في كل وقت وبخاصة في هذه الأوقات.