وبعد أن بين - سبحان- أحوال المنافقين من سكان المدينة ، أتبع ذلك بالحديث عن المنافقين من الأعراب سكان البادية فقال - تعالى : { وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب . . . } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب } قرأ الأعرج والضحاك المعذرون مخففا ، ورواها أبو كريب عن أبى بكر عن عاصم . . وهى من أعذر ، ومنه قد أعذر من أنذر ، أى : قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك ، وأما " المعذرون " بالتشديد - وهى قراءة الجمهور - ففيها قولان :
أحدهما : أنه يكون المحق ، فهو في المعنى المعتذر ، لأن له عذراً ، فيكون " المعذرون " على هذه أصله المعتذرون ، ثم أدغمت التاء في الذال . .
وثانيهما : أن المعذر قد يكون غير محق ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له .
والمعنى ، أنهم اعتذروا بالكذب . .
قال الجوهرى : وكان ابن عباس يقول : لعن الله المعذرين ، كان الأمر عنده أن المعذر - بالتشديد - هو المظهر للعذر ، اعتلالاً من غير حقيقة له في العذر . .
ومن هذه الأقوال التي نقلناها عن القرطبى يتبين لنا أن من المفسرين من يرى أن المقصود من المعذرين : أصحاب الأعذار المقبولة .
وقد رجح الإِمام ابن كثير هذا الرأى فقال : بين الله - تعالى - حال ذوى الأعذار في ترك الجهاد ، وهم الذين جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه ، ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة .
قال الضحاك عن ابن عباس : إنه كان يقرأ " وجاء المعذرون " - بالتخفيف ، ويقول : هم أهل العذر . . وهذا القول أظهر في معنى الآية ؛ لأنه - سبحانه - قال بعد هذا : { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } .
وعلى هذا الرأى تكون الآية قد ذكرت قسمين من الأعراب : قسما جاء معتذرا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقسما لم يجئ ولم يعتذر ، وهذا القسم هو الذي توعده الله بسوء المصير .
ومنهم من يرى أن المقصود بالمعذرين : أصحاب الأعذار الباطلة ، وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف فقال : " المعذرون " عن عذر في الأمر ، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد فيهن وحقيقته أنه يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له .
أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ، وهم الذين يعتذرون بالباطل ، كقوله ، يعتذرن إليكم إذا رجعتم إليهم . .
وقرئ " المعذرون " بالتخفيف : وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه . قيل هم أسد وغطفان . قالوا : إن لنا عيالا ، وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف .
وقيل : " هم رهط عامر بن الطفيل . قالوا : إن غزونا معك أغارك أعراب طئ على أهالينا ومواشينا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - " سيغنين الله عنكم " وعن مجاهد : نفر من غفارا عتذروا فلم يعذرهم الله - تعالى - وعن قتادة : اعتذروا بالكذب .
وعلى هذا الرأى تكون الآية الكريمة قد ذكرت قسمين - أيضاً - من الأعراب ، إلا أن أولهما قد اعتذر بأعذار غير مقبولة ، وثانيهما لم يعتذر ، بل قعد في داره مصرا على كفره ، ولذا قال أبو عمرو بن العلاء : كلا الفريقين كان سيئا : قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله - تعالى . بقوله { وَجَآءَ المعذرون } ، وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله وهم المنافقون ، فتوعدهم الله قوله : { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
والذين يبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ؛ لتناسقه مع يفيده ظاهره الآية ، لأن الآية الكريمة ذكرت نوعين من الأعراب ، أحدهما : المعذرون .
أى أصحاب الأعذار ، وثانيهما : الذين قعدوا في بيوتهم مكذبين لله ولرسوله ، فتوعدهم - سبحانه - بالعذاب الأليم ، ولأنه لا توجد قريئة قوية تجعلنا نرجح أن المراد بالمعذرين هنا ، أصحاب الأعذار الباطلة ، لأن التفسير اللغوى للكلمة - كما نقلنا عن القرطبى - يجعلها صالحة للأعذار المقبولة ، فكان الحلم على حسن الظن أولى ، والله ، تعالى ، بعد ذلك هو العليم بأحوال العباد ، ما ظهر منها وما بطن .
وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة : وعندما استنفر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، الناس إلى غزة تبوك ، جاءه أصحاب الأعذار من الأعراب ليستأذنوه في عدم الخروج معه ، فقبل - صلى الله عليه وسلم ما هو حق منها .
وقوله : { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } بيان للفريق الثانى من الأعراب وهو الذي لم يجئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معتذرا .
أى : وقعد عن الخروج إلى تبوك ، وعن المجئ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للاعتذار ، أولئك الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان ، وهم الراسخون في النفاق والعصيان من الأعراب سكان البادية .
وقوله : { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وعيد لهم بسوء العاقبة في الدارين .
أي : سيصيب الذين أصروا على كفرهم ونفاقهم من هؤلاء الأعراب ، عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، أما الذين رجعوا عن كفرهم ونفاقهم منهم ، وتابوا إلى الله - تعالى توبة صادقة ، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا .
{ وجاء المعذّرون من الأعراب ليُؤذن لهم } يعني أسدا وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال . وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيئ على أهالينا ومواشينا . والمعذر أما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له ، أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ، ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما . وقرأ يعقوب { المعذَّرون } من أعذر إذا اجتهد في العذر . وقرئ { المعَّذرون } بتشديد العين والذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين ، وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } في غيرهم وهم منافقو الأعراب كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمان وإن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار . { سيصيب الذين كفروا منهم } من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره { عذاب أليم } بالقتل والنار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجاء المعذرون من الأعراب} إلى النبي صلى الله عليه وسلم {ليؤذن لهم} القعود... {وقعد} عن الغزو {الذين كذبوا الله}، يعني بتوحيد الله، {و} كذبوا ب {ورسوله} أنه ليس برسول، {سيصيب الذين كفروا منهم}، يعني المنافقين، {عذاب أليم} يعني: وجيع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَجاءَ" رسولَ الله،صلى الله عليه وسلم، "المُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ ليُؤْذَنَ لَهُمْ "في التخلف. "وَقَعَدَ" عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه "الّذِينَ كَذّبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ" وقالوا الكذب، واعتذروا بالباطل منهم. يقول تعالى ذكره: سيصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم عذاب أليم.
فإن قال قائل: فكيف قيل: "وَجَاءَ المُعَذّرُونَ" وقد علمت أن المعذّر في كلام العرب إنما هو الذي يُعَذّر في الأمر، فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه، وليست هذه صفة هؤلاء، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّهم، وحرصوا على ذلك، فلم يجدوا إليه السبيل، فهم بأن يوصفوا بأنهم قد أعذروا أولى وأحقّ منهم بأن يوصفوا بأنهم عذروا إذا وصفوا بذلك.
فالصواب في ذلك من القراءة ما قرأه ابن عباس..."وّجاء المُعْذِرُونَ" مخففة، ويقول: هم أهل العذر. مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه؟ قيل: إن معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإن معناه: وجاء المعتذرون من الأعراب، ولكن التاء لما جاورت الذال أدغمت فيها، فصُيرتا ذالاً مشددة لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى، كما قيل: يَذّكّرون في يتذكرون، ويذّكر في يتذكر... والعرب قد توجه في معنى الاعتذار إلى الإعذار، فتقول: قد اعتذر فلان في كذا، يعني: أعذر...
على أن أهل التأويل، قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم معذّرين، فقال بعضهم: كانوا كاذبين في اعتذارهم، فلم يعذرهم الله... عن مجاهد: "وجَاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ" قال: نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا، فلم يعذرهم الله.
فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحقّ. فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار إلا أن يوصفوا بأنهم أعذروا في الاعتذار بالباطل. فأما بالحقّ على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء، فغير جائز أن يوصفوا به. وقد كان بعضهم يقول: إنما جاءوا معذرين غير جادّين، يعرضون ما لا يريدون فعله. فمن وجهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك، غير أني لا أعلم أحدا من أهل العلم بتأويل القرآن وجّه تأويله إلى ذلك، فأستحبّ القول به.
وبعد، فإن الذي عليه من القراءة قرّاء الأمصار التشديد في الذال، أعني من قوله: المُعَذّرُونَ ففي ذلك دليل على صحة تأويل من تأوّله بمعنى الاعتذار لأن القوم الذين وصفوا بذلك لم يكلفوا أمرا عذروا فيه، وإنما كانوا فرقتين إما مجتهد طائع وإما منافق فاسق لأمر الله مخالف، فليس في الفريقين موصوف بالتعذير في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو معذر مبالغ، أو معتذر. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الحجة من القرّاء مجمعة على تشديد الذال من «المعذرين»، علم أن معناه ما وصفناه من التأويل...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: المعذرون هم الذين يستأذنون في القعود ولا عذر لهم في ذلك.
وقال الكلبي: المعذرون هم الذين لهم عذر وبهم علة.
وبعضهم قال: المعذرون: هم المعتدون. وقال: لعن اللَّه المعذرين؛ كأنه ذهب إلى أن المعْذر هو الذي له عذر، والمعذِّر بالتشديد: الذي لا عذر له؛ لذلك لعن المعذِّر.
قال أبو معاذ: وأكثر كلام العرب المعذر الذي له عذر، وهو قولهم: قد أعذر من أنذر.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ:- المعذر بالتشديد -: الذي لا يناصح، إنما يريد أن يعذر، ويقال: عذرت في الأمر: إذا لم تبالغ فيه، وأعذرت في الأمر، أي: بالغت فيه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المعذرون -بالتشديد -: هم الذين لا يجدون ما ينفقون، إنما يعرضون ما لا يريدون أن يفعلوه؛ يقال: عذرت في الأمر: إذا قصرت، وأعذرت: جددت.
ثم قال بعض أهل التأويل: دل هذا على أن أهل النفاق كانوا صنفين: صنف كانوا يستأذنون في القعود، وصنف لا يستأذنون، ولكن يقعدون بقوله: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ).
دل قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) على أن من أهل النفاق من قد آمن، وأن من تاب يقبل ذلك منه؛ لأنه قال: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يقل: سيصيبهم عذاب أليم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعذرون- بالتخفيف -: هم المؤمنون الذين لهم عذر في التخلف، أتوا رسول اللَّه لينظر في أمرهم الأوفق: إن كان الخروج لهم أوفق يخرجون، وإن كان القعود أوفق يقعدون؛ يدل على ذلك الآية التي تتلو هذه وهي قوله "- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ) الآية.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} فيها وجهان: أحدهما: أنهم المعتذرون بحق اعتذروا به فعذروا، قاله ابن عباس وتأويل قراءة من قرأها بالتخفيف. والثاني: هم المقصرون المعتذرون بالكذب، قاله الحسن وتأويل من قرأها بالتشديد، لأنه إذا خفف مأخوذ من العذر، وإذا شدد مأخوذ من التعذير، والفرق بينهما أن العذر حق والتعذير كذب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وهم أصحاب الأعذار -في قول أهل التفسير- طلبوا الإذنَ في التأخرِ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك فسقط عنهم اللَّوْمُ. أما الذين تأخروا بغير عُذْرٍ فقد توجَّه عليهم اللوم، وهو لهم في المستقبل الوعيد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{المعذرون} من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ: وحقيقته أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له: أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم، ولكن لم تثبت بهما قراءة، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}... وقرئ: «المعْذِرون» بالتخفيف: وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه. قيل: هم أسد وغطفان.
قالوا: إن لنا عيالاً: وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم: «سيغنيني الله عنكم»...وقيل: أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر المعذرون والمعذرون، على قراءة ابن عباس رضي الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر. {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان... {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من الأعراب {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة، وكان أهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال، فهم أجدر بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك، تلاهم بهم فقال: {وجاء المعذرون} أي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد -بما أشار إليه الإدغام، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له، والعذر: إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير {من الأعراب}... {ليؤذن} أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو {لهم} أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك، هكذا كان الأصل فوضع موضعه: {وقعد الذين كذبوا الله} أي وهو المحيط علماً وقدرة {ورسوله} تنبيهاً على وصفهم وليكون أظهر في شمول الأعراب وغيرهم. ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال: {سيصيب} أي بوعد لا خلف فيه {الذين كفروا} أي حتم بكفرهم {منهم عذاب أليم} أي في الدارين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} المعذرون بالتشديد اسم فاعل من التعذير كالمقصرين من التقصير. هكذا قرأ الكلمة جمهور القراء، وقرأها يعقوب بالتخفيف من الإعذار، وروي هذا عن ابن عباس، ولكن من طريق الكلبي، وكذا عن مجاهد. وقد تقدم في تفسير الآية 66 معنى العذر والاعتذار. والإعذار: إبداء العذر ومنه المثل «أعذر من أنذر» وأعذر: ثبت له عذر، وقصر ولم يبالغ وهو يرى أنه مبالغ-كأنه ضد- وكثرت ذنوبه وعيوبه، وله معاني أخرى كما في القاموس.
[قال]: وقوله تعالى: {وجاء المعذرون} بتشديد الذال المكسورة أي المعتذرون الذين لهم عذر، وقد يكون المعذر غير محق فالمعنى المقصرون بغير عذر،اه. وزاد شارحه: ومعنى المعذرون الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن، وهو ههنا شبيه بأن يكون لهم عذر. ويجوز في كلام العرب المعذرون بكسر العين المهملة الذين يعذرون: يوهمون أن لهم عذرا ولا عذر لهم. قال أبو بكر: ففي المعذرين وجهان: إذا كان المعذرون من عذر الرجل فهو معذر فهم لا عذر لهم، وإذا كان المعذرون أصله المعتذرون فألقيت فتحة التاء على العين وأبدل منها ذال وأدغمت في الذال التي بعدها فلهم عذر. وقال أبو الهيثم في تفسير الآية: معناه المعتذرون، يقال: عذَّر عذارا في معنى اعتذر، ويجوز عذَّر الرجل يعذر عِذَّاراً فهو معذر. قال: ومثله: هدَّى يهدي هداء إذا اهتدى. قال الله: {أمن لا يهدي إلا أن يهدي} [يونس: 35] اه.
وقد أطال ابن منظور في الكلام على المادة والمراد منها في الآية.
والحكمة في القراءتين على اختلاف معاني الصيغتين بيان اختلاف أحوال أولئك الأعراب في أعذارهم، فمنهم من له عذر صحيح هو موقن به، ومن له عذر صوري لا حقيقي وهو يوهم أنه حقيقي عالما بأنه مخادع، ومنهم من له عذر ضعيف هو في شك منه إن نوقش فيه عجز عن إثباته، ومنهم من لا عذر له في الواقع فهو كاذب في انتحاله، وهذا من إيجاز القرآن العجيب بالإتيان بلفظ مفرد يتناول هذه الأقسام كلها، مبهمة إلا عند أهلها، للحكمة الآتية المقتضية لإبهامها.
والمعنى: وجاء الذين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام، من أولي التعذير والإعذار، قال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم، فقالوا: يا نبي الله إن نحن غزونا معك تُغِير أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم). وقال ابن عباس: هم قوم تخلفوا بعذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: وظاهره أن عذرهم حق، وهو يصدق ببعضهم دون بعض، كمقابله الذي يذكر عن أبي عمرو.
{وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب، أي أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاماً، يقال كما في الأساس: كذبته نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له...
وهؤلاء هم المنافقون الأقحاح. قال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان مسيئاً: قوم تكلفوا عذراً بالباطل وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وجاء المعذرون}، وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون، فأوعدهم الله بقوله: {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} الظاهر المختار أن هذا الوعيد يعود على ما قبله من الفريقين عاما في المكذبين، وخاصاً ببعض المعذرين، كما هو المتبادر من قوله تعالى: {منهم} أي الأعراب الذين اعتذر بعضهم وقعد بعض، فإن الذين كذبوا الله ورسوله كلهم كفار، وأما المعتذرون فمنهم الصادق في عذره، والكاذب فيه لمرض في قلبه، أو لتكذيبه لله ورسوله، وكل منهم يعرف نفسه فيحاسبها إذا وجد الوعيد موضعا للعبرة منها، ولو جعل التبعيض لهم وحدهم لظل القاعدون الكاذبون بغير وعيد وهم شر من شرهم، فلا يصح التبعيض فيهم وحدهم، ومن ثم اقتضى التحقيق أن يوجه الوعيد إلى الذين كفروا منهم لكفرهم لا لاعتذارهم، وإلى الذين قعدوا لكفرهم لا لقعودهم، بل للكذب الذي كان سببه وهو عين الكفر، وهو لم يذكر بصيغة الحصر،لأن من القعود ما يكون بعذر من الأعذار المنصوصة في الآية التالية وهم أولوا الضرر في قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] الخ. فالإبهام لمستحقي هذا الوعيد من الفريقين من بلاغة القرآن التي امتاز بها إعجازه البياني. وهذا العذاب الأليم يراد به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعاً كما تقدم في آخر الآية [74].
المعذرون أو المعتذرون هم الذين يريدون أن يتخلفوا عن القتال بأعذار مفتعلة، وهم أرادوا القعود والسكون ولم يتحركوا للقتال، وقد فعلوا ذلك دون عذر حقيقي. ويقال:"المعذرون"، و "المعذّر "و "أعذره "أي: أذهب عذره، مثل:"أعجم الكتاب "أي: أذهب عجمته. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} لقد كذبوا الرسول في الإيمان نفسه؛ لأنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد الاعتذار وتخلفوا، ولو كانوا قد صدقوا في الإيمان لمات تقاعسوا عن القتال، أو لاستأذنوا الله في القعود. ثم يقول الحق: {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} والكفر-كما نعلم- هو ستر الإيمان، والمنافقون من الأعراب أظهروا الإيمان وكانت قلوبهم تمتلئ بالكفر. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الأيمان في قلوبكم} (الحجرات 14) أي: أنهم يؤدون أمور الإسلام الظاهرية بينما قلوبهم لم يدخلها الإيمان. ويعرفنا الحق سبحانه بالجزاء الذي ينتظر هؤلاء المتخلفين من الأعراب فيقول: {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} وعرفنا من قبل أن وصف العذاب في القرآن إما أن يكون أليما، وإما أن يكون مهينا، وإما أن يكون عظيما، وإما أن يكون مقيما...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية ولمناسبة البحث هنا للأبحاث السابقة حول المنافقين الذين يعتذرون بكل عذر ويتمسكون بأتفه الحجج إِشارة إِلى وضع وواقع مجموعتين من المتخلفين عن الجهاد:
الأُولى: وهم المعذورون فعلا في عدم مشاركتهم في القتال.
والثّانية: وهم المتخلفون عن أداء هذا الواجب الكبير تمرداً وعصياناً، وليس لهم أي عذر في تخلفهم هذا.
ففي البداية تقول الآية أنّ هؤلاء الأعراب رغم أنّهم كانوا معذورين في عدم الاشتراك في الجهاد، فإنّهم حضروا بين يدي النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يأذن لهم في الجهاد: (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم). وفي مقابل ذلك فإن الفئة الأُخرى التي كذبت على الله ورسوله قد تخلف أفرادها دون أي عذر، (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله). وفي النهاية هددت الآية المجموعة الثّانية تهديداً شديداً وأنذرتهم بأنّه (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم).
إن ما قلناه في تفسير الآية المذكورة هو الأنسب للقرائن الموجودة، فإننا نرى من جهة أن هاتين الفئتين تقابل إحداهما الأُخرى، ومن جهة أُخرى فإنّ كلمة (منهم) تدل على أن أفراد المجموعتين لم يكونوا كفاراً بأجمعهم، ومن هاتين القرينتين يفهم أن (المعذرين) هم المعذورون حقيقة.
إلاّ أنّه قيل في مقابل هذا التّفسير تفسيران آخران:
الأوّل: إنّ المقصود من (المعذرين) هم الذين كانوا يتمسكون بالأعذار الواهية والكاذبة للفرار من الجهاد. والمقصود من المجموعة الثّانية هم الذين لا يكلفون أنفسهم حتى مشقّة الاعتذار، بل إنّهم يمتنعون علناً وبكل صراحة عن إطاعة أوامر الله عزّ وجلّ.
الثّاني: إِنّ كلمة (المعذرين) تشمل كل الفئات التي تعتذر بأعذار ما عن الذهاب إِلى ميادين الحرب والجهاد، سواء كانت هذه الأعذار صادقة أم كاذبة.
إِلاّ أنّ القرائن تدل على أنّ (المعذرين) هم المعذورون الحقيقيون.