التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (77)

ثم توعد الله - تعالى - الذين يخونون العهود ، ويحلفون كذبا بالعذاب الأليم ، ونعى على فريق من اليهود تحريفهم للكلم عن مواضعه ، وأنذرهم بسوء المصير فقال - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ . . . . } .

روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } الآية روايات منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على مال امرىء مسلم بغير حقه لقى الله وهو عليه غضبان " قال عبد الله : ثم قرأ علينا رسول الله مصداقه من كتاب الله ، { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } إلخ .

وفى رواية قال : " من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ، فأنزل الله - تعالى - تصديق ذلك { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } . قال عبد الله : فدخل الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا : كذا وكذا . فقال : صدق . فى نزلت ، كان بينى وبين رجل خصومة فى بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه ؟ قلت : إنه إذاً يحلف ولا يبالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان " ، ونزلت : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } .

وروى البخارى عن عبد الله بن أوفى أن رجلا أقام سلعة فى السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } .

وقال الفخر الرازى : قال عكرمة إنها نزلت فى أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم فى التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا " .

هذه ثلاث روايات فى سبب نزول تلك الآية الكريمة ، وأرجحها رواية الشيخيين ، ولذا وجب الأخذ بها إلا أن نزول الآية فى قصة معينة لا يمنع شمول حكمها لكل ما يشبه هذه القصة أو الحادثة ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب-كما يرى جمهور العلماء - .

فكل من حلف بالله كاذبا ، واشترى بعهده - سبحانه - ثمنا قليلا حقت عليه العقوبة التى بينتها الآية الكريمة . ويدخل تحت هذه العقوبة دخولا أوليا أولئك اليهود الذين خانوا عهد الله بإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعرفون صدقه معرفة جليلة .

والمراد بقوله { يَشْتَرُونَ } أى يستبدلون ، وذلك لان المشترى يأخذ شيئاً ويعطى شيئاً . فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر . والمراد { بِعَهْدِ الله } كل ما يجب الوفاء به ، فيدخل فيه ما أوجبه الله - تعالى - على عباده من فرائض وتكاليف ، ومن إيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، كما يدخل فيه - أيضاً - ما أوجبه الله على أهل الكتاب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذى يجدون نعته فى كتبهم ، ويعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم .

والباء فى قوله - تعالى - { بِعَهْدِ الله } داخلة على المتروك الذى تركوه وأخذوا فى مقابله الثمن القليل .

وقوله { وَأَيْمَانِهِمْ } معطوف على عهد الله .

والمراد بأيمانهم تلك : الأيمان الكاذبة التى يحلفونها ليؤكدوا ما يريدون تأكيده من أقوال أو أفعال .

والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو المال والمنافع الزائلة ، التى أخذوها نظير تركهم لعهود الله ، وحلفهم الكاذب .

وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل المحصل نظير خيانة عهود الله تحقيراً له ، إذ أنه لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أغراض الدنيا بجانب رضا الله والوفاء بعهوده .

وقوله { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } أى الذين يخونون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في مقابل عرض من أعراض الدنيا ، لا نصيب لهم ولاحظ من نعيم الآخرة بسبب ما ارتكبوه من غدر وافتراء .

وقوله { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } أى لا يكلمهم بما يسرهم بل يكلمهم بما يسوؤهم ويخزيهم يوم القيامة بسبب أعمالهم السيئة .

أو أن عدم كلام الله - تعالى -لهم : كناية عن عدم محبته لهم ، لأن من عادة المحب أن يقبل على حبيبه ويتحدث إليه ، أما المبغض لشىء ، فإنه ينصرف عنه .

وإلى هذا المعنى ذهب الإمام الرازى فقد قال ما ملخصه : " وقوله - تعالى - { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } فيه سؤال وهو أنه - تعالى - قال : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فكيف الجمع بين الآية التى معنا وبين قوله { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } والجواب : أن المقصود من كل هذه الكلمات : بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه ، فإنما ذلك بسخط عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك ، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول : لا ارى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب نعوذ بالله منه . وهذا هو الجواب الصحيح " .

وقوله { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } أى لا يعطف عليهم ولا يرحمهم ولا يحسن إليهم ، وذلك كما يقول القائل لغيره : انظر إلي ، يريد : ارحمني واعطف علي .

ويقال : فلان لا ينظر إلى فلان ، والمراد من ذلك نفى الإحسان إليه وترك الاعتداد به ، فقد جرت العادة بأن من اعتد بإنسان وعطف عليه التفت إليه .

قالوا : فلهذا السبب صار المراد بعدم نظر الله - تعالى - إلى هؤلاء الخائنين عبارة عن ترك العطف عليهم والإحسان إليهم والرحمة بهم .

ولا يجوز أن يكون المراد من عدم النظر إليهم ، وعدم رؤيتهم ، لأنه - سبحانه - يراهم كما يرى غيرهم من خلقه .

وقوله - تعالى - { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أى أنه - سبحانه - لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وأوزارهم بالمغفرة ، بل يعاقبهم عليها . أو أنه - سبحانه - لا يثنى عليهم كما يثنى على الصالحين من عباده ، بل يسخط عليهم وينتقم منهم جزاء غدرهم .

ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان النتيجة المترتبة على هذا الغضب منه عليهم ، فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

أى ولهم عذاب مؤلم موجع بسبب ما ارتكبوه من آثام وسيئات .

فانت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمناً قليلا بأنهم لاحظ لهم من نعيم الآخرة ، وأنهم ليسوا أهلا لرضا الله ورحمته وإحسانه ، وأنهم سينالون العذاب المؤلم الموجع بسبب ما قدمت أيديهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (77)

{ إن الذين يشترون } يستبدلون . { بعهد الله } بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بالرسول والوفاء بالأمانات . و{ أيمانهم } وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه ، { ثمنا قليلا } متاع الدنيا . { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله } بما يسرهم أو بشيء أصلا ، وأن الملائكة يسألونهم يوم القيامة ، أو لا ينتفعون بكلمات الله وآياته ، والظاهر أنه كناية عن غضبه عليهم لقوله : { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } فإن من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه ، كما أن من اعتد بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه . { ولا يزكيهم } ولا يثني عليهم { ولهم عذاب أليم } على ما فعلوه . قيل : إنها نزلت في أحبار حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة . وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به . وقيل : نزلت في ترافع كان بين الأشعث بن قيس ويهودي في بئر أو أرض وتوجهه الحلف على اليهودي .