ثم أمن الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - من خداع أعدائه ، إن هم أرادوا خيانته ، ويبتوا له الغدر من وراء الجنوح إلى السلم فقال - تعالى - : { وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } .
أى : وإن يرد هؤلاء الأعداء الذين جنحوا إلى السلم في الظاهر أو يخدعوك - يا محمد - لتكف عنهم حتى يستعدوا لمقاتلتك فلا تبال بخداعهم ، بل صالحهم مع ذلك إن كان في الصلح مصلحة للإِسلام وأهله ، ولا تخف منهم ، فإن الله كافيك بنصره ومعونته ، فهو - سبحانه - الذي أمدك بما أمدك به من وسائل النصر الظاهرة والخافية ، وهو - سبحانه - الذي أيدك بالمؤمنين الذين هانت عليهم أنفسهم وأموالهم في سبيل إعزاز هذا الدين ، وإعلاء كلمته . .
فالآية الكريمة تشجيع للنبى - صلى الله عليه وسلم - على السير في طريق الصلح ما دام فيه مصلحة للإِسلام وأهله ، وتبشير له بأن النصر سيكون له حتى ولو أراد الأعداء بإظهار الميل إلى السلم المخادعة والمراوغة . وقوله : { حَسْبَكَ } صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل . أى . بحسبك وكافيك .
قال الفخر الرازى : فإن قيل : أليس قد قال - تعالى - { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ . . . } أى : أظهر نقض ذلك العهد ، وهذا يناقض ما كذره في هذه الآية ؟
قلنا : قوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها ، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم بنوع نفاق وتزوير ، إلا أنه لم تظهر أمارات على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة ، بل كان الظهر من أحوالهم الثبات على المسالمة وترك المنازعة . .
فإن قيل : لما قال : { هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } فأى حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال { وبالمؤمنين } ؟
قلنا : التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين : أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة والثانى ما يحصل بواسطة أسباب معلومة .
فالأول هو المراد من قوله { أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } والثانى هو المراد من قوله : { وبالمؤمنين } .
ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ، { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } أي : كافيك وحده .
ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ؛ فقال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ آل عمران : 103 ] .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : " يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أَمَنَّ . {[13127]}
ولهذا قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه .
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن{[13128]} القنديلي الإستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ؛ يقول الله تعالى : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وذلك موجود في الشعر : إذا مَتَّ ذو القربى إليك برحمه فَغَشَّك واستَغْنى فليس بذي رحم
ولكن ذا القربى الذي إن دعوته أجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تُقَرّب قاطعا *** وإذا المودة أَقْرَبُ الأسْبَاب
قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس ، أو هو من قول من دونه من الرواة ؟{[13129]}
وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } الآية ، قال : هم المتحابون في الله ، وفي رواية : نزلت في المتحابين في الله .
رواه النسائي والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح{[13130]}
وقال عبد الرازق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }
وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لُبَابة ، عن مجاهد - ولقيته فأخذ بيدي فقال : إذا تراءى المتحابان في الله ، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ، وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر . قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير ! فقال : لا تقل ذلك ؛ فإن الله تعالى يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ! . قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني{[13131]}
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان{[13132]} عن إبراهيم الخوزي{[13133]} عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال : قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني .
وكذا روى طلحة بن مُصَرِّف ، عن مجاهد .
وقال ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : كنا نحدث{[13134]} أن أول ما يرفع من الناس - [ أو قال : عن الناس ]{[13135]} - الألفة .
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، رحمه الله : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار{[13136]} {[13137]}
لمّا كان طلب السلم والهدنة من العدوّ قد يكون خديعة حربية ، ليَغرُّوا المسلمين بالمصالحة ثمّ يأخذوهم على غرّة ، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم ، ويحملهم على الصدق ، لأنّه الخُلق الإسلامي ، وشأن أهل المُروءة ، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد ، فإذا بعث العدوَّ كفرُهم على ارتكاب مثل هذا التسفّل ، فإنّ الله تكفّل ، للوفي بعهده ، أن يقيه شرّ خيانة الخائنِين . وهذا الأصل ، وهو أخذ الناس بظواهرهم ، شعبة من شعب دين الإسلام قال تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين } [ التوبة : 4 ] وفي الحديث : آية المنافق ثلاث ، منها : وإذا وعد أخلف . ومن أحكام الجهاد عن المسلمين أن لا يخفر للعدوّ بعهد .
والمعنى : إنْ كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعةً فإنّ الله كافيك شرّهم . وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قوله : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] فإنّ ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدوّ ، وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه .
فجملة : { فإن حسبك الله } دلّت على تكفّل كفايته ، وقد أريد منه أيضاً الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال ، وأن لا يتوجّس منه خيفة ، وأنّ ذلك لا يضرّه .
والخديعة تقدّمت في قوله تعالى : { يخادعون الله } من سورة [ البقرة : 9 ] .
وحسب معناه كاف وهو صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل ، أي حاسبك ، أي كافيك وقد تقدّم قوله تعالى : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } في سورة [ آل عمران : 173 ] .
وتأكيد الخبر ب ( إنْ ) مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي ، لأنّ معناه الصريح ممّا لا يشكّ فيه أحد .
{ وجَعْل حسبك } مسنداً إليه ، مع أنّه وصف ، وشأن الإسناد أن يكون للذات ، باعتيار أنّ الذي يخطر بالبال باديء ذي بدء هو طلب من يكفيه .
وجملة { هو الذي أيدك بنصره } مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال : على أنّه حَسبه ، وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحَرّج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجّس من ذلك الاحتمال خيفة ، والمعنى : فإنّ الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم ، فنصَرك على العدوّ وهو مجاهر بعدْوَانِه ، فنصرُه إيَّاك عليهم مع مخاتلتهم ، ومع كونك في قوّة من المؤمنين الذين معك ، أولى وأقرب .
وتعدية فعل { يخدعوك } إلى ضمير النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار كونه وليّ أمر المسلمين ، والمقصود : وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله ، وقد بُدّل الأسلوب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ليتوصّل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفاً أمّة كاملة .
والتأييد التقوية بالإعانة على عمل . وتقدّم في قوله : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس }
وجعلت التقوية بالنصر : لأنّ النصر يقوي العزيمة ، ويثبت رأي المنصور ، وضدّه يشوش العقل ، ويوهن العزم ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض خطبه وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان حتّى قالت قريش : ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا معرفة له بالحرب .
وإضافة النصر إلى الله : تنبيه على أنّه نصر خارق للعادة ، وهو النصر بالملائكة والخوارق ، من أوّل أيّام الدعوة .
وقوله : { وبالمؤمنين } عطف على { بنصره } وأعيد حرف الجرّ بعد واو العطف لدفع توهّم أن يكون معطوفاً على اسم الجلالة فيوهم أنّ المعنى ونصر المؤمنين مع أنّ المقصود أنّ وجود المؤمنين تأييد من الله لرسوله إذ وفّقهم لاتّباعه فشرح صدره بمشاهدة نجاح دعوته وتزايد أمته ولكون المؤمنين جيشاً ثابتي الجنان ، فجعل المؤمنون بذاتهم تأييداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {وإن يريدوا أن يخدعوك} يا محمد بالصلح لتكف عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب، أعانوهم عليك، يعني يهود قريظة، {فإن حسبك الله هو الذي أيدك}، يعني هو الذي قواك {بنصره}... {وبالمؤمنين} من الأنصار يوم بدر، وهو فاعل ذلك أيضا، وأيدك على يهود قريظة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن يرد يا محمد هؤلاء الذين أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء، إن خفت منهم خيانة، وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم خداعك والمكر بك "فإنّ حَسْبَكَ اللّهُ "يقول: فإن الله كافيكهم وكافيك خداعهم إياك، لأنه متكفل بإظهار دينك على الأديان ومتضمن أن يجعل كلمته العليا وكلمة أعدائه السفلى. "هُوَ الّذِي أيّدَكَ بِنَصْرِهِ" يقول: الله الذي قوّاك بنصره إياك على أعدائه، "وبالمؤْمِنِينَ" يعني بالأنصار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
النصر من الله يكون مرة في الأسباب بالمؤمنين وبغير ذلك من الأسباب، ومرة باللطف منه بلا سبب.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ}: يغدروا ويمكروا بك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والخديعة: إظهار المحبوب في الأمر للاستجابة له مع إبطان خلافه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في قوله {وإن يريدوا} عائد على الكفار الذين قيل فيهم، {وإن جنحوا} وقوله: {وإن يريدوا أن يخدعوك} يريد بأن يظهروا له السلم ويبطنوا الغدر والخيانة، أي فاجنح وما عليك من نياتهم الفاسدة، {فإن حسبك الله} أي كافيك ومعطيك نصرة وإظهاراً، وهذا وعد محض، و {أيدك} معناه قواك، {وبالمؤمنين} يريد بالأنصار بقرينة قوله {وألف بين قلوبهم}...
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح، ذكر في هذه الآية حكما من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة، وجب قبول ذلك الصلح، لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالا من الإيمان، فلما بنينا أمر الإيمان عن الظاهر لا على الباطن، فههنا أولى ولذلك قال: {وإن يريدوا} المراد من تقدم ذكره في قوله: {وإن جنحوا للسلم}. فإن قيل: أليس قال: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم} أي أظهر نقض ذلك العهد، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية؟ قلنا: قوله: {وإما تخافن من قوم خيانة} محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير، إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
التأييد والنصر من الله عز وجل وحده لكنه يكون بأسباب باطنة غير معلومة وبأسباب ظاهرة معلومة فأما الذي يكون بالأسباب الباطنة فهو المراد بقوله {هو الذي أيدك بنصره} لأن أسبابه باطنة بغير وسائط معلومة، وأما الذي يكون بالأسباب الظاهرة فهو المراد بقوله {وبالمؤمنين} لأن أسبابه ظاهرة بوسائط وهم المؤمنون والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو الذي أقامهم لنصره ثم بيَّن كيف أيده بالمؤمنين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم صرح بالاستهانة بكيدهم فقال: {وإن يريدوا} أي الكفار {أن يخدعوك} أي بما يوقعون من الصلح أو بغيره {فإن حسبك} أي كافيك {الله} أي الذي له صفات العز كلها، ثم علل كفايته أو استأنف بيانها بقوله: {هو} أي وحده {الذي أيدك بنصره} أي إذ كنت وحدك {وبالمؤمنين*} أي بعد ذلك في هذه الغزوة التي كانت العادة قاضية فيها بأن من معك لا يقومون للكفار فواق ناقة، ولعل هذا تذكير بما كان من الحال في أول الإسلام، أي إن الذي أرسلك مع وحدتك في مكة بين جميع الكفار وغربتك فيهم -وإن كانوا بني عمك- بسبب دعوتك إلى هذا الدين وعلوك عن أحوالهم البهيمية إلى الأخلاق الملكية، هو الذي قواك وحده بالنصر عليهم حتى لم يقدروا لك على أذى يردك عن الدعاء إلى الله مع نصب جميعهم لك ولمتبعيك شباك الغدر ومدهم إليكم أيدي الكيد ثم سلّكم من بين أظهرهم كما تسل الشعرة من العجين مع اجتهادهم في منعكم من ذلك، وأيدكم بالأنصار وجمع بين كلمتهم بعد شديد العداوة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى معنى أمره بالتوكل في حال قبول السلم إن جنحوا إليه على خلاف المعهود منهم اختيارا فقال: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين}.
{وإن يريدوا أن يخدعوك} بجنوحهم للسلم، ويفترصوه لأجل الاستعداد للحرب أو انتظار غرة تمكنهم من أهل الحق {فإن حسبك الله} أي كافيك أمرهم من كل وجه. "حسْب "تستعمل بمعنى الكفاية التامة ومنها قولهم: أحسب زيدا عمرا، أو أعطاه حتى أحسبه، أي أجزل له وكفاه حتى قال حسبي، أي لا حاجة لي في الزيادة. وقال المدققون من النحاة إنها صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل من أحسبه ومنه قول البيضاوي وغيره في تفسيرها هنا أي محسبك وكافيك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمّا كان طلب السلم والهدنة من العدوّ قد يكون خديعة حربية، ليَغرُّوا المسلمين بالمصالحة ثمّ يأخذوهم على غرّة، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم، ويحملهم على الصدق، لأنّه الخُلق الإسلامي، وشأن أهل المُروءة، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد، فإذا بعث العدوَّ كفرُهم على ارتكاب مثل هذا التسفّل، فإنّ الله تكفّل، للوفي بعهده، أن يقيه شرّ خيانة الخائنِين. وهذا الأصل، وهو أخذ الناس بظواهرهم {هو الذي أيدك بنصره} والمعنى: فإنّ الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم، فنصَرك على العدوّ وهو مجاهر بعدْوَانِه، فنصرُه إيَّاك عليهم مع مخاتلتهم، ومع كونك في قوّة من المؤمنين الذين معك، أولى وأقرب...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فهذا النص فيه أمر بمنع التردد، لشك يقوم في نية الصلح أو السلم، إذ السلم خير كله، ولا يمنع الخير، لظن الخديعة،...
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} جعل سبحانه فعل الشرط إرادة الخديعة لا الخديعة نفسها، وعبر في حرف الشرط ب (إن) الدالة على الشك، لبيان أنه يجب إبعاد إرادة الخديعة والخديعة نفسها...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومن هنا كان عبء المسلمين ثقيلا لاسيما في هذا العصر، وكانت اليقظة الدائمة والاستعداد المستمر أوجب الواجبات، على خاصة المسلمين وعامتهم في جميع الأوقات.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الله يحمي النبي من كيد الكافرين {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بالأساليب الملتوية والمظاهر الخادعة، ليقوموا بعملية تحضيرٍ لهجوم مفاجئ، يستغلّون فيه حالة الاسترخاء التي يوحي بها السلم، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} الذي يحميك من كل المفاجآت غير المحسوبة في المستقبل، كما حماك في الماضي، على أساس أن تستكمل كل الحسابات لكل ما يحيط بك ولما يطرأ عليك، مما تستطيع أن تتعرف أبعاده. فلا تخف من كل ما يواجهونك به من أساليب الخداع، فإن الله يكفيك منها، وتذكر لطف الله بك
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فكم أرادوا بك كيداً، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنةً، لكنّه عزّ وجلّ حفظك ورعاك في مواجهة كل ذلك.