وقوله - سبحانه - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين . . } معطوف على قصة موسى والخضر - عليهما السلام - عطف القصة على القصة .
قال البقاعى : كانت قصة موسى مع الخضر مشتملة على الرحلات من أجل العلم ، وكانت قصة ذى القرنين مشتملة على الرحلات من أجل الجهاد فى سبيل الله ، ولما كان العلم أساس الجهاد تقدمت قصة موسى والخضر على قصة ذى القرنين . . .
والسائلون هم كفار قريش بتلقين من اليهود ، فقد سبق أن ذكرنا عند تفسيرنا لقصة أصحاب الكهف . أن اليهود قالوا لوفد قريش : سلوه - أى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاث نأمركم بهن . . سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من أمرهم . . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها . . وسلوه عن الروح .
وجاء التعبير بصيغة المضارع - مع أن الآيات نزلت بعد سؤالهم - لاستحضار الصورة الماضية ، أو للدلالة على أنهم استمروا فى لجاجهم إلى أن نزلت الآيات التى ترد عليهم .
أما ذو القرنين ، فقد اختلفت فى شأنه أقوال المفسرين اختلافا كبيرا ، لعل أقربها إلى الصواب ما أشار إليه الآلوسى بقوله : وذكر أبو الريحان البيرونى فى كتابه المسمى " بالآثار الباقية عن القرون الخالية " ، أن ذا القرنين هو أبو كريب الحميرى ، وهو الذى : افتخر به تبع اليمنى حيث قال :
قد كان ذو القرنين جدى مسلما . . . ملكا علا فى الأرض غير مفند
بلغ المغارب والمشارق يبتغى . . . أسباب ملك من حكيم مرشد
ثم قال أبو الريجان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب ، لأن ملوك اليمن كانوا يلقبون بكلمة ذى . كذى نواس ، وذى يزن . إلخ . .
ومن المقطوع به أن ذا القرنين هذا : ليس هو الإِسكندر المقدونى الملقب بذى القرنين . تلميذ أرسطو ، فإن الإِسكندر هذا كان وثنيا . . بخلاف ذى القرنين الذى تحدث عنه القرآن ، فإنه كان مؤمنا بالله - تعالى - ومعتقدا بصحة البعث والحساب .
والرأى الراجح أنه كان عبدا صالحا ، ولم يكن نبيا .
ويرى بعضهم أنه كان بعد موسى - عليه السلام - ، ويرى آخرون غير ذلك ومن المعروف أن القرآن الكريم يهتم فى قصصه ببيان العبر والعظات المستفادة من القصة ، لا ببيان الزمان أو المكان للأشخاص .
وسمى بذى القرنين - على الراجح - لبلوغه فى فتوحاته قرنى الشمس من أقصى المشرق والمغرب .
والمعنى : ويسألك قومك - يا محمد - عن خبر ذى القرنين وشأنه .
{ قل } لهم - على سبيل التعليم والرد على تحديهم لك . { سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } .
والضمير فى " منه " يعود على ذى القرنين و " من " للتبعيض .
أى : قل لهم : سأتلو عليكم من خبره - وسأقص عليكم من أنبائه عن طريق هذا القرآن الذى أوحاه الله إلى ما يفيدكم ويكون فيه ذكرى وعبرة لكم إن كنتم تعقلون
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَيَسْأَلُونَكَ } يا محمد { عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } أي : عن خبره . وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون{[18413]} منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا ، وعن الروح ، فنزلت سورة الكهف .
وقد أورد ابن جرير هاهنا ، والأموي في مغازيه ، حديثا أسنده وهو ضعيف ، عن عقبة بن عامر ، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء ، فكان فيما أخبرهم به : " أنه كان شابا{[18414]} من الروم ، وأنه بنى الإسكندرية ، وأنه علا به ملك في السماء ، وذهب به إلى السد ، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب " . وفيه طول ونكارة ، ورفعه لا يصح ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل . والعجب أن أبا زُرْعَة الرازي ، مع جلالة قدره ، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة ، وذلك غريب منه ، وفيه من النكارة أنه من الروم ، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني ، الذي تؤرخ به الروم ، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، أول ما بناه وآمن به واتبعه ، وكان معه{[18415]} الخضر ، عليه السلام ، وأما الثاني فهو ، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور ، والله أعلم . وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم . وقد كان قبل المسيح ، عليه السلام ، بنحو من ثلثمائة سنة ، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل ، كما ذكره الأزرقي وغيره ، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم ، عليه السلام ، وقرب إلى الله قربانًا ، وقد ذكرنا طرفًا{[18416]} من أخباره في كتاب " البداية والنهاية " {[18417]} ، بما فيه كفاية ولله الحمد .
وقال وهب بن منبه : كان ملكًا ، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، قال : وقال بعض أهل الكتاب : لأنه ملك الروم وفارس . وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين ، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل قال : سئل علي ، رضي الله عنه ، عن ذي القرنين ، فقال : كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه ، دعا قومه إلى الله فضربوه{[18418]} على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين .
وكذا رواه شعبة ، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي الطفيل ، سمع عليًا يقول ذلك .
ويقال : إنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب ، من حيث يطلع{[18419]} قرن الشمس ويغرب .
افتتاح هذه القصة ب { وَيَسْئَلُونَكَ } يدلّ عل أنها مما نزلت السورة للجواب عنه كما كان الابتداء بقصة أصحاب الكهف اقتضاباً تنبيهاً على مثل ذلك .
وقد ذكرنا عند تفسير قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي } في سورة الإسراء ( 85 ) عن ابن عباس : أن المشركين بمكة سألوا النبي ثلاثة أسئلة بإغراء من أحبار اليهود في يثرب . فقالوا : سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عنها كلها فليس بنبيء . وإن أجاب عن بعضها وأمسك عن بعض فهو نبيء ؟ . وبيّنا هنالك وجه التعجيل في سورة الإسراء النازلة قبل سورة الكهف بالجواب عن سؤالهم عن الروح وتأخير الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين إلى سورة الكهف . وأعقبنا ذلك بما رأيناه في تحقيق الحق من سَوق هذه الأسئلة الثلاثة في مواقع مختلفة .
فالسائلون : قريش لا محالة ، والمسؤول عنه : خبر رجل من عظماء العالم عرف بلقب ذي القرنين ، كانت أخبار سيرته خفيّة مُجملة مغلقة ، فسألوا النبي عن تحقيقها وتفصيلها ، وأذن له الله أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون الصلاح والعدل ، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق ، فكان أحْبار اليهود منفردين بمعرفة إجمالية عن هذه المسائل الثلاث وكانت من أسرارهم فلذلك جَرّبوا بها نبوءة محمد .
ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه ، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن ، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حِكميةً أو خُلقيةً فلذلك قال الله : { قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنهُ ذِكراً } .
والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره ، فحذف المضاف إيجازاً لدلالة المقام ، وكذلك حذف المضاف في قوله : { مِنْهُ } أي من خبره و ( مِن ) تبعيضية .
والذكر : التذكر والتفكر ، أي سأتلو عليكم ما به التذكر ، فجعل المتلو نفسه ذكراً مبالغة بالوصف بالمصدر ، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تُساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب ، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية .
اختلف المفسرون في تعيين المسمى بذي القرنين اختلافاً كثيراً تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وأخبار تاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللفظية ، ولعل اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصّاصين الذين عُنوا بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق فراموا تطبيق هذه القصة عليها . والذي يجب الانفصال فيه بادىء ذي بدء أن وصفه بذي القرنين يتعين أن يكون وصفاً ذاتياً له وهو وصف عربي يظهر أن يكون عرف بمدلوله بين المثيرين للسؤال عنه فترجموه بهذا اللفظ .
ويتعين أن لا يحمل القرنان على الحقيقة ، بل هما على التشبيه أو على الصورة . فالأظهر أن يكونا ذُؤابتين من شعر الرأس متدليتين ، وإطلاق القرن على الضفيرة من الشعر شائع في العربية ، قال عُمر بن أبي ربيعة :
فلثمت فاها آخذاً بقُرونها *** شُرب النزيف ببرَد ماء الحشرج
وفي حديث أم عطية في صفة غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم عطية : « فجعلنا رأسها ثلاثة قرون » ، فيكون هذا الملك قد أطال شعر رأسه وضفره ضفيرتين فسمي ذا القرنين ، كما سمّي خِربَاق ذا اليدين .
وقيل : هما شبه قرني الكبش من نحاس كانا في خوذة هذا الملك فنُعت بهما . وقيل : هما ضربتان على موضعين من رأس الإنسان يشبهان منبتي القرنين من ذوات القرون .
ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين ، فأحد الأقوال : إنه الإسكندر بن فيليبوس المقدوني . وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين . وقيل : كان يلبس خوذة في الحرب بها قرنان ، وقيل : رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه تمثيلاً لنفسه بالمعبود ( آمون ) معبود المصريين وذلك حين ملَك مصر .
والقول الثاني : إنه ملك من ملوك حمير هو تُبّع أبو كرب .
والقول الثالث : أنه ملك من ملوك الفرس وأنه ( أفريدون بن أثفيان بن جمشيد ) . هذه أوضح الأقوال ، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته .
ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوالاً تقرّب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال ، وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع .
وهذه القصة القرآنية تعطي صفات لا محيد عنها :
إحداها : أنه كان ملكاً صالحاً عادلاً .
الثانية : أنه كان ملهَماً من الله .
الثالثة : أن مُلكه شمل أقطاراً شاسعة .
الرابعة : أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكاناً كان مجهولاً وهو عين حَمئة .
الخامسة : أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج ، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطاً بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه .
السادسة : أنه أقام سدّاً يحول بين ياجوج وماجوج وبين قوم آخرين .
السابعة : أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فساداً وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك .
الثامنة : أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء .
التاسعة : أن خبره خفيّ دقيق لا يعلمه إلاّ الأحبار علماً إجمالياً كما دل عليه سبب النزول .
وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكاً صالحاً بل كان وثنياً فلم يكن أهلاً لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة ، وأيضاً فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سُدّاً بين بلدَين .
وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشىء عن شهرة الإسكندر ، فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلاّ من بنائه ، كما توهم العرب أن مدينة تَدمر بناها سليمان عليه السلام . وأيضاً فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الإسكندر حارب أمة ( سكيثوس ) . وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريباً{[273]} .
وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم اسكندر المقدوني أثراً في اشتهار نسبة السد إليه . وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام .
ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة ، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عُراة أو عديمي المساكِن ، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين . وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعْنيّ بذي القرنين في هذه الآية ، فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين ، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به . وأيضاً فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمّتان مجاورتان للأمة العربية .
ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملكُ المتحدث عنه هو أفريدون ، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم . وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصراً إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع . ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا ، وقد ظهر من أقوالهم أنّ سبب هذا التوهم هو وجود كلمة ( ذو ) التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته .
فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكاً من ملوك الصين لوجوه :
أحدها : أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع .
الثاني : أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة .
الثالث : أن من سماتهم تطويل شعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين .
الرابع : أن سُداً ورَدْماً عظيماً لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المَغُول ، وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم ، وسيرد وصفه .
الخامس : ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فقال : « ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا » وأشار بعقد تسعين ( أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام ) . وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم ، وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شَاول ملك إسرائيل باسم طالوت .
وهذا الملك هو الذي بنى السدّ الفاصل بين الصين ومنغوليا . واسم هذا الملك ( تْسِينْشِي هْوَانْفتي ) أو ( تْسِينْ شِي هْوَانْقْ تِي ) . وكان موجوداً في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن . وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين ( كنفيشيوس ) المشرع المصلح ، فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين .
وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيراً وقتل علماء وأحرق كتباً ، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها .
ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن فيليبوس نحلوه بناء السدّ . وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين . وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحِد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة .
والأمر في قوله { قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم } إذن من الله لرسوله بأن يَعد بالجواب عن سؤالهم عملاً بقوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } على أحد تأويلين في معناه .
والسين في قول { سَأَتْلُوا عَلَيْكُم } لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربّي } في سورة يوسف ( 98 ) .
وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكراً للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوةً حسب شأن القرآن فإنّه يُتلى لأجل الذكر ولا يُساق مساق القصص .
وقوله { مِنْهُ ذِكْراً } تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكراً وعظة . ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف : نحن نقصّ عليك من نبئهم ، لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر ، وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا .
وحرف ( من ) في قوله { مِنْهُ ذِكْراً } للتبعيض باعتبار مضاف محذوف ، أي من خبره .