ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى وقرره فقال : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ . . . } .
أى : إن هذه المعبودات الباطلة لا تملك من شئ مع الله - تعالى - ، بدليل أنكم إن تدعوهم لنفعكم ، لن يسمعوا دعاءكم ، وإن تستغيثوا بهم عند المصائب والنوائب ، لمن يلبوا استغاثتكم . .
{ وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض والتقدير { مَا استجابوا لَكُمْ } لأنهم لا قدرة لهم على هذه الاستجابة لعجزهم عن ذلك .
{ وَيَوْمَ القيامة } الذى تتجلى فيه الحقائق ، وتنكشف الأمور { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } .
أى : يتبرأون من عبادتكم لهم ، ومن إشراككم إياهم العبادة مع الله - تعالى - ، فضلاً عن عدم استجابتهم لكم إذا دعوتموهم لنصرتكم .
{ وَلاَ يُنَبِّئُكَ } أى : ولا يخبرك بهذه الحقائق التى لا تقبل الشك أو الريب .
{ مِثْلُ خَبِيرٍ } أى : مثل من هو خبير بأحوال النفوس وبظواهرها وببواطنها . وهو الله - عز وجل - فإنه - سبحانه - هو الذى يعلم السر وأخفى .
وبهذا نرى الآيات الكريمة ، قد طوفت بنا فى ٍأرجاء هذا الكون ، وساقت لنا ألوانا من نعم الله - تعالى - على الناس ، كالرياح ، والسحاب ، والأمطار والبحار ، والليل والنهار ، والشمس والقمر . . وهى نعم تدل على وحدانية المنعم بها ، وعلى قدرته - عز وجل - وفى كل ذلك هداية إلى الحق لكل عبد منيب .
ثم قال : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } يعني : الآلهة التي تدعونها من دون الله لا يسمعون{[24502]} دعاءكم{[24503]} ؛ لأنها جماد لا أرواح فيها { وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } أي : لا يقدرون{[24504]} على ما تطلبون منها ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } ، أي : يتبرؤون منكم ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] ، وقال : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 81 ، 82 ] .
وقوله : { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي : ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه ، مثلُ خبير بها .
قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى ، فإنه أخبر بالواقع لا محالة .
ثم بين تعالى أمر الأصنام بثلاثة أشياء كلها تعطي بطلانها ، : أولها أنها لاتسمع إن دعيت ، والثاني أنها لا تجيب أن لو سمعت وإنما جاء بهذه لأن لقائل متعسف أن يقول عساها تسمع ، والثالث أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار ، ويكفرون بشركهم أي بأن جعلوهم شركاء لله فأضاف الشرك إليهم من حيث هم قرروه ، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل ، وقوله { يكفرون } يحتمل ان يكون بكلام ، وعبارة يقدر الله الأصنام عليها ويخلق لها إدراكاً يقتضيها ، ويحتمل أن يكون بما يظهر هناك من جمودها وبطولها عند حركة كل ناطق ومدافعة كل محتج فيجيء هذا على طريق التجوز كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وقفت على ربع لمية ناطق . . . يخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه . . . تكلمني أحجاره وملاعبه{[9706]}
وهذا كثير ، وقوله { ولا ينبئك مثل خبير } قال المفسرون قتادة وغيره «الخبير » هنا أراد به تعالى نفسه فهو الخبير الصادق الخبر نبأ بهذا فلا شك في وقوعه ، ويحتمل أن يكون قوله { ولا ينبئك مثل خبير } من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : ولا يخبرك مثل من يخبر عن نفسه أي لا أصدق في تبريها من شرككم منها فيريد بالخبير على هذا المثل له ، كأنه قال { ولا ينبئك مثل خبير } عن نفسه وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء .
وجملة { إن تدعوهم } خبر ثان عن { الذين تدعون من دونه } [ فاطر : 13 ] . والمقصد منها تنبيه المشركين إلى عجز أصنامهم بأنها لا تسمع ، وليس ذلك استدلالاً فإنهم كانوا يزعمون أن الأصنام تسمع منهم فلذلك كانوا يكلمونها ويوجهون إليها محامدهم ومدائحهم ، ولكنه تمهيد للجملة المعطوفة على الخبر وهي جملة { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } فإنها معطوفة على جملة { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } ، وليست الواو اعتراضية ، أي ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ومجاراة مزاعمكم حين تدعونها فإنها لا تستجيب لدعوتكم ، أي لا ترد عليكم بقبول ، وهذا استدلال سنده المشاهدة ، فطالما دَعُوا الأصنام فلم يسمعوا منها جواباً وطالما دَعَوْها فلم يحصل ما دعوها لتحصيله مع أنها حاضرة بمرأى منهم غير محجوبة ، فعدم إجابتها دليل على أنها لا تسمع ، لأن شأن العظيم أن يستجيب لأوليائه الذين يسعون في مرضاته ، فقد لزمهم إمّا عجزُها وإما أنها لا تفقه إذ ليس في أوليائها مغمز بأنهم غير مُرْضِينَ لهذا . وهذا من أبدع الاستدلال الموطّأ بمقدمة متفق عليها .
وقوله : { ما استجابوا } يجوز أن يكون بمعنى إجابة المنادي بكلمات الجواب . ويجوز أن يكون بمعنى إجابة السائل بتنويله ما سأله . وهذا من استعمال المشترك في معنييه .
ولما كشف حال الأصنام في الدنيا بما فيه تأييس من انتفاعهم بها فيها كمِّل كشف أمرها في الآخرة بأن تلك الأصنام ينطقها الله فتتبرأ من شركهم ، أي تتبرأ من أن تكون دعت له أو رضيت به .
والشرك أضيف إلى فاعله ، أي بشرككم إياهم في الإِلهية مع الله تعالى .
وأجري على الأصنام موصول العاقل وضمائرَ العقلاء { والذين تدعون } [ فاطر : 13 ] إلى قوله : { يكفرون بشرككم } على تنزيل الأصنام منزلة العقلاء مجاراة للمردود عليهم على طريقة التهكم .
وقوله : { ولا ينبئك مثل خبير } تذييل لتحقيق هذه الأخبار بأن المخبِر بها هو الخبير بها وبغيرها ولا يخبرك أحد مثل ما يخبرك هو .
وعُبّر بفعل الإِنباء لأن النبأ هو الخبر عن حدث خطير مهمّ .
والخطاب في قوله : { ينبئك } لكل من يصح منه سماع هذا الكلام لأن هذه الجملة أرسلت مُرسَل الأمثال فلا ينبغي تخصيص مضمونها بمخاطَب معين .
و { خبير } صفة مشبهة مشتقة من خَبُر ، بضم الباء ، فلان الأمرَ ، إذا علمه علماً لا شك فيه . والمراد ب { خبير } جنس الخبير ، فلما أرسل هذا القول مثلاً وكان شأن الأمثال أن تكون موجزة صيغ على أسلوب الإِيجاز فحذف منه متعلِّق فعل ( يُنَبِّىء ) ومتعلِّق وصف { خبير } ، ولم يذكر وجه المماثلة لعلمه من المقام . وجعل { خبير } نكرة مع أن المراد به خبير معيَّن وهو المتكلم فكان حقه التعريف ، فعدل إلى تنكيره لقصد التعميم في سياق النفي لأن إضافة كلمة { مثل } إلى خبير لا تفيده تعريفاً . وجعل نفي فعل الإِنباء كناية عن نفي المنبىء . ولعل التركيب : ولا يوجد أحد ينبئك بهذا الخبر يماثل هذا الخبير الذي أنبأك به ، فإذا أردف مُخبر خبره بهذا المثل كان ذلك كناية عن كون المخبِر بالخبر المخصوص يريد ب { خبير } نفسَه للتلازم بين معنى هذا المثل وبين تمثل المتكلم منه . فالمعنى : ولا ينبئك بهذا الخبر مثلي لأني خَبَرتُه ، فهذا تأويل هذا التركيب وقد أغفل المفسّرون بيان هذا التركيب .
والمِثل بكسر الميم وسكون المثلثة : المساوي ؛ إما في قدر فيكون بمعنى ضِعف ، وإما المساوي في صفة فيكون بمعنى شبيه وهو بوزن فِعل بمعنى فاعل وهو قليل . ومنه قولهم : شِبْه ، ونِدّ ، وخِدْن .