هذا ما أعطاه الله - تعالى - لنبيه داود من فضل ، أما نبيه سليمان بن داود ، فقد أعطاه - سبحانه - أفضالا أخرى ، عبر عنها فى قوله - تعالى - : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } .
والغدوة والغداة : أول النهار إلى الزوال . والرواح من الزوال إلى الغروب .
والمعنى : وسخرنا لنبينا سليمان بن داود - عليهما السلام - الريح ، تجرى بأمره فى الغدوة الواحدة مسيرة شهر ، وتعود بأمره فى الروحة الواحدة مسيرة شهر . أى : أنها لسرعتها تقطع فى مقدار الغدوة الواحدة ما يقطعه الناس فى شهر من الزامن ، وكذلك الحال بالنسبة للروحة الواحدة ، وهى فى كل مرة تسير بأمر سليمان ، ووفق إرادته التى منحه الله - تعالى - إياها .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } وقوله - سبحانه - : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } ثم بين - تعالى - نعمة ثانية من النعم التى أنعم بها على سليمان فقال : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } .
والقطر : هو النحاس المذاب . مأخوذ من قطَر الشئ يَقْطُر قَطْراً وقطَرانا ، إذا سال .
أى : كما ألنا لداود الحديد ، أسلنا لابنه سليمان النحاس وجعلناه مذابا ، فكان يستعمله فى قضاء مصالحه ، كما يستعمل الماء ، وهذا كله بفضلنا وقدرتنا .
ثم بين - سبحانه - نعمة ثالثة أنعم بها على سليمان - عليه السلام - فقال : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } .
أى : وسخرنا له من الجن من يكونون فى خدمته ، ومن يعملون بين يديه ما يريده منهم ، وهذا كله بأمرنا ومشيئتنا وقدرتنا .
{ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أى : من ينحرف من هؤلاء الجن عما أمرناه به من طاعة سليمان ، { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } أى : ننزل به عذابنا الأليم ، الذى يذله ويخزيه فى الدنيا والآخرة .
لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود ، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان{[24175]} ، من تسخير الريح له تحمل بساطه ، غدوها شهر ورواحها شهر .
قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذّى{[24176]} بها ، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل ، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع ، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع .
وقوله : { وَأَسَلْنَا لَهُ{[24177]} عَيْنَ الْقِطْرِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، و{[24178]} عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد : القطر : النحاس . قال قتادة : وكانت باليمن ، فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان ، عليه السلام .
قال السدي : وإنما أسيلت له ثلاثة أيام .
وقوله : { وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن الله ، أي : بقدره {[24179]} ، وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك . { وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي : ومَنْ يعدل ويخرج منهم عن الطاعة { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } وهو الحريق .
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نُفَير{[24180]} ، عن أبي ثعلبة الخُشَنيّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الجن على ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون » . رفعه غريب جدًا . {[24181]}
وقال{[24182]} أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا حَرْمَلة ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني بكر{[24183]} بن مُضَر ، عن محمد ، عن ابن أنعم أنه قال : الجن ثلاثة : صنف لهم الثواب وعليهم العقاب ، وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض ، وصنف حيات وكلاب .
قال بكر بن مضر : ولا أعلم إلا أنه قال : حدثني أن الإنس ثلاثة{[24184]} : صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة . وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلا . وصنف في صُوَر الناس على قلوب الشياطين .
وقال أيضا{[24185]} : حدثنا أبي : حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق حدثنا سلمة - يعني ابن الفضل - عن إسماعيل ، عن الحسن{[24186]} قال : الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون ، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب ، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .
قال الحسن : عقر سليمان الخيل أسفاً على ما فوتته من فضل وقت صلاة العصر فأبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع الريح تجري بأمره{[9611]} ، وقرأ جمهور القراء «الريحَ » بالنصب على معنى ولسليمان سخرنا الريح ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والأعرج «الريحُ » بالرفع على تقديره تسخرت الريح أو على الابتداء والخبر في المجرور ، وذلك على حذف مضاف تقديره ولسليمان تسخير الريح ، وقرأ الحسن «ولسليمان تسخير الرياح » وكذلك جمع في كل القرآن ، وقوله تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر } قال قتادة معناه أنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة وتقطع به في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر ، فروي عن الحسن البصري أنه قال كان يخرج من الشام من مستقره بتدمر التي بنتها له الجن بالصفاح والعمد فَيقيل في اصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان ونحو هذا ، وكانت الأعصار تقل بساطه وتحمله بعد ذلك الرخاء ، وكان هذا البساط من خشب يحمل فيما روي أربعة آلاف فارس وما يشبهها من الرجال والعدد ويتسع بهم ، وروي أكثر من هذا بكثير ولكن عدم صحته مع بعد شبهه أوجب اختصاره .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير الجيوش أربعة آلاف »{[9612]} وما كان سليمان ليعدو الخير ، وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها شهر وروحتها شهر »{[9613]} وكان إذا أراد قوماً لم يشعروا به حتى يظلمهم في جو السماء ، وقوله تعالى : { وأسلنا له عين القطر } ، روي عن ابن عباس وقتادة أنه كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما أحب ، و { القطر } : النحاس ، وقالت فرقة { القطر } الفلز كله النحاس والحديد وما جرى مجراه ، كان يسيل له منه عيون ، وقالت فرقة بل معنى { أسلنا له عين القطر } أذبنا له النحاس عن نحو ما كان الحديد يلين لداود ، قالوا وكانت الأعمال تتأتى منه لسليمان وهو بارد دون نار ، و { عين } على هذا التأويل بمعنى الذات ، وقالوا لم يلن النحاس ولاذاب لأحد قبله ، وقوله { من يعمل } يحتمل أن { من } تكون في موضع نصب على الاتباع لما تقدم بإضمار فعل تقديره وسخرنا من الجن من يعمل ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على الابتداء والخبر في المجرور ، و { يزغ } معناه يمل أي ينحرف عاصياً ، وقال { عن أمرنا } يقل عن إرادتنا لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف الإرادة ، ويقع ما يخالف الأمر ، قال الضحاك وفي مصحف عبد الله «ومن يزغ عن أمرنا » بغير { منهم } ، وقوله تعالى : { من عذاب السعير } قيل عذاب الآخرة ، وقيل بل كان قد وكل بهم ملك وبيده سوط من نار السعير ، فمن عصى ضربه فأحرقه به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر ابنه سليمان عليهما السلام، وما أعطاه الله عز وجل من الخير والكرامة، فقال عز وجل: {و} سخرنا {ولسليمان الريح غدوها شهر} يعني مسيرة شهر...
{وأسلنا له عين القطر} يعني أخرجنا لسليمان عين الصفر...
{ومن الجن من يعمل} وسخرنا لسليمان من الجن من يعمل {بين يديه} بين يدي سليمان {بإذن ربه} يعني رب سليمان عز وجل.
{ومن يزغ منهم} ومن يعدل منهم {عن أمرنا}...
{نذقه من عذاب السعير} الوقود في الدنيا.
ابن كثير: قال مالك عن زيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: القطر: النحاس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلِسُلَيْمانَ الرّيحَ":... ولقد آتينا داود منا فضلاً، وسخرنا لسليمان الريحَ...
وقوله: "غُدُوّها شَهْرٌ "يقول تعالى ذكره: وسخرنا لسليمان الريح، غدوّها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، ورواحها من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر...
وقوله: "وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ "يقول: وأذبنا له عين النحاس، وأجريناها له... وقوله: "وَمِنَ الجِنّ مَنْ يَعْمَلُ بَينَ يَدَيْهِ بإذْنِ رَبّهِ" يقول تعالى ذكره: ومن الجنّ من يطيعه، ويأتمر بأمره، وينتهي لنهيه، فيعمل بين يديه ما يأمره طاعة له بإذن ربه يقول: بأمر الله بذلك، وتسخيره إياه له.
"وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمْرِنا" يقول: ومن يزُل ويعدل من الجنّ عن أمرنا الذي أمرناه من طاعة سليمان، "نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ فِي الآخرة"، وذلك عذاب نار جهنم الموقدة...
المسخر لسليمان كانت ريحا مخصوصة لا هذه الرياح، فإنها لمنافع عامة في أوقات الحاجات ويدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد فما قرأ أحد الرياح.
{عن أمرنا} بلفظ التعظيم الموجب لزيادة الخوف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولسليمان} أي عوضاً من الخيل التي عقرها لله ولما ذكر الريح، أتبعها ما هي من أسباب تكوينه فقال: {وأسلنا له} أي بعظمتنا {عين القطر} أي النحاس أذبناه له حتى صار كأنه عين ماء، وذلك دال على أنه تعالى يفعل في الأرض ما يشاء، فلو أراد لأسالها كلها فهلك من عليها، ولو أراد لجعل بدل الإسالة الخسف والإزالة.
{الجن} أي الذين سترناهم عن العيون من الشياطين وغيرهم.
{من يعمل} ولما كان قد أمكنه الله منهم غاية الإمكان في غيبته وحضوره قال: {بين يديه} ولما كان ربما ظن ظان أن لهم استبداداً بأعمالهم نفاه بقوله:
{بإذن ربه} أي بتمكين المحسن إليه له ولهم بما يريد فعله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك ما آتاه الله داود -عليه السلام- فأما سليمان فقد آتاه الله أفضالاُ أخرى:
(ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه. ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب. وقدور راسيات. اعملوا آل داود شكراً. وقليل من عبادي الشكور).
وتسخير الريح لسليمان تتكاثر حوله الروايات، وتبدو ظلال الإسرائيليات واضحة في تلك الروايات -وإن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئا عنها- والتحرج من الخوض في تلك الروايات أولى. والاكتفاء بالنص القرآني أسلم. مع الوقوف به عند ظاهر اللفظ لا نتعداه. ومنه يستفاد أن الله سخر الريح لسليمان، وجعل غدوها أي توجهها غادية إلى بقعة معينة [ذكر في سورة الأنبياء أنها الأرض المقدسة] يستغرق شهراً، ورواحها أي انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهراً كذلك. وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها، يدركها سليمان -عليه السلام- ويحققها بأمر الله.. ولا نملك أن نزيد هذا إيضاحاً حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها ولا تحقيق.
والقطر النحاس. وسياق الآيات يشير إلى أن هذا كان معجزة خارقة كإلانة الحديد لداود. وقد يكون ذلك بأن فجر الله له عيناً بركانية من النحاس المذاب من الأرض. أو بأن ألهمه الله إذابة النحاس حتى يسيل ويصبح قابلاً للصب والطرق. وهو فضل من الله كبير.
(ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه)..
وكذلك سخر له طائفة من الجن يعملون بأمره بإذن ربه. والجن كل مستور لا يراه البشر. وهناك خلق سماهم الله الجن ولا نعرف نحن من أمرهم شيئاً إلا ما ذكره الله عنهم. وهو يذكر هنا أن الله سخر طائفة منهم لنبيه سليمان -عليه السلام- فمن عصى منهم ناله عذاب الله:
(ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير)..
ولعل هذا التعقيب -قبل الانتهاء من قصة التسخير- يذكر على هذا النحو لبيان خضوع الجن لله. وكان بعض المشركين يعبدهم من دون الله. وهم مثلهم معرضون للعقاب عندما يزيغون عن أمر الله.
وهم مسخرون لسليمان -عليه السلام -:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف فضيلة سليمان على فضيلة داود للاعتبار بما أوتيه سليمان من فضل كرامةً لأبيه على إنابته ولسليمان على نشأته الصالحة عند أبيه، فالعطف على {لقد آتينا داود منا فضلاً} [سبأ: 10] والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفاً بالإِنابة قال تعالى: {ثم أناب} في سورة ص (34).
ومعنى تسخيره الريح: خلق ريح تلائم سيرَ سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحاً موسمية تهبّ شهراً مشرّقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهبّ شهراً مغرّبة لترجع سفنه إلى شواطئ فلسطين، كما قال تعالى: {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} في سورة الأنبياء (81).
{عذاب السعير}: عذاب النار تشبيه، أي عذاباً كعذاب السعير، أي كعذاب جهنم، وأما عذاب جهنم فإنما يكون حقيقة يوم الحساب.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وذكر كتاب الله في حق داوود اشتغاله بآلة الحرب، بينما ذكر في حق سليمان اشتغاله بمهام السلم؛ لأن ملكه كان موطدا من عهد أبيه.
يعني: كما آتينا داود منّا فضلاً، وكان من هذا الفضل أنْ أوَّبَتْ معه الجبال، وألنَّا له الحديد، كذلك كان من فضل الله على ولده سليمان أنْ طوَّعنا له الريح، وجعلناها تأتمر بأمره.
وسبق أنْ بينَّا أن كلمة الريح إنْ وردت مفردة، فهي في الشر والعذاب، وإنْ جاءت جمعاً دلَّت على الخير والرحمة، واقرأ قوله تعالى:
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41-42] وقال:
{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].
وفي الرياح قال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ..} [الحجر: 22].
وبيان ذلك، أن الريح إنْ كانت مفردة تُعَدّ ريحاً مدمرة؛ لأنها تأتي من ناحية واحدة، والذي يقيم الأشياء ويحفظ توازنها أن الرياح تحيط بها من كل جانب فتستقيم، فالذي يدعم ناطحات السحاب مثلاً الهواء الذي يحيط بها، فإنْ أفرغتَ الهواء من ناحية منها انهارتْ نحو هذه الناحية؛ لذلك كانت الريح الواحدة من جنس العذاب، والرياح من جنس الرحمة، ألاَ ترى الأعاصير تدمر؛ لأنها تأتي من جهة واحدة؟
لكن، هل سخَّر الله تعالى لسليمان الرياح؟ أمْ سخَّر له الريح؟ قالوا: لم تُسخَّر لسليمان الرياح كلها، إنما ريحاً مخصوصة وظَّفها له وطوَّعها لأمره، وهذه الريح أعطتْ سليمان عليه السلام عزَّة ومنعة بحيث لا يَقْوَى أحد على مواجهته أو التصدي له.
لذلك كان هو -عليه السلام- النبي والملك الذي لم يحاربه أحد، ولم يجرؤ أحد على منازعته مُلْكَه ولا نبوته. كيف وفي يده من القوة ما لم يتوفر لغيره، فسلطانه سلطان قَهْر إنْ أراد شيئاً أذعن الجميع لإرادته.
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءت دعوته لاستمالة القلوب، لا لإرغام القوالب؛ لذلك خاطبه ربه بقوله:
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]...
ثم يذكر الحق سبحانه أمراً آخر مما خصَّ به سليمان عليه السلام: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ..} ومعنى {بِإِذْنِ رَبِّهِ..} أن المسألة كلها تسخير من الله لنبيه سليمان، وليس أمراً ذاتياً من عنده.
لذلك قال: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا..} أي: يميل، أو ينحرف عنه، أو يعصاه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} فأَمْر سليمان للجن من باطن أَمْر الله، ومَنْ يَعْصِ أمره كأنه عَصَى أمرنا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ينحرف عن شريعة الله في ما يريد الله للعباد أن يفعلوه أو يتركوه.
{نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} فذلك هو جزاء المنحرفين من العصاة والمتمردين،
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الملفتُ هنا أنّ الله تبارك وتعالى حينما سخّر للأب جسماً خشناً وصلباً جدّاً وهو الحديد، نرى أنّه قد سخّر للابن موجوداً لطيفاً للغاية، ولكنّ العملين كانا نافعين وإعجازيين، جسم صلب يلين لداود، وأمواج الهواء اللطيفة تجعل محكمة وفعّالة لسليمان!!
والجدير بالملاحظة. هو أنّه لإدارة حكومة كبيرة، ودولة واسعة كدولة سليمان يلزم وجود عوامل عديدة، ولكن أهمّها ثلاثة عوامل ذكرتها الآية أعلاه وهي:
الأوّل: توفّر واسطة نقل سريعة مهيّأة على الدوام، لكي يستطيع رئيس الحكومة تفقّد جميع أطراف دولته بواسطتها.
الثاني: مواد أوّلية يستفاد منها لصناعة المعدّات اللازمة لحياة الناس والصناعات المختلفة.
الثالث: قوّة عاملة فعّالة، تستطيع الإفادة من تلك المواد بدرجة مناسبة، وتصنيعها بالكيفية اللازمة، وسدّ حاجة البلاد من هذه الجهة.
ونرى أنّ الله تعالى قد قيّض لسليمان هذه العناصر الثلاثة، وقد حقّق سليمان منها أحسن الفائدة في ترقية الناس وتعمير البلاد وتحقيق الأمن فيها.
وهذا الموضوع لا يختّص فقط بعصر سليمان (عليه السلام) وحكومته، فالالتفات إليه ومراعاته من الضروريات اليوم وغداً، وفي كلّ مكان لأجل إدارة الدول بطريقة صحيحة.