التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (33)

وبعد هذا الحديث الحكيم المتنوع - من أول السورة إلى هنا - عن وحدانية الله ، وقدرته النافذة وعلمه المحيط ، وعن أحقيته للعبادة والخضوع ، وعن الكتب السماوية وما اشتملت عليه من هدايات وعن محكم القرآن ومتشابهه ، وعن رعاية الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، وعن تهديد الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وعن الشهوات التي يميل الإنسان بطبعه إليها وعما هو أفضل منها ، وعن دين الإسلام وأنه هو الدين الذى ارتضاه الله لعباده ، وعن بعض الرذائل التى عرفت عن أكثر أهل الكتاب ، وعن حث الناس على مراقبة الله - تعالى - وإخلاص العبادة له حتى يكونوا ممن يحبهم ويحبونه فيسعدوا في دينهم ودنياهم وآخرتهم . . .

بعد كل ذلك تحدث القرآن - في أكثر من ثلاثين آية - عمن اصطفاهم الله من عباده ، وعن جانب من قصة مريم ، وقصة زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - وعن قصة ولادة عيسى - عليه السلام - وما صاحبها من خرق للعادات ، وما منحه - سبحانه - من معجزات وعن محاجة الكافرين من أهل الكتاب في شأنه وكيف رد القرآن عليهم . . . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }

قوله { اصطفى } من الاصطفاء وهو الاختيار والانتقاء وطلب الصفوة من كل شيء . وقوله { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } الآل - كما يقول الراغب - مقلوب عن الأهل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة . يقال آل فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمان كذا أو موضع كذا . . . ويضاف إلى الأشرف الأفضل فيقال آل الله وآل السلطان ولا يقال آل الحجام . . . . ويستعمل الآل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة قال - تعالى - { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ } .

والمعنى : إن الله - تعالى - قد اختار واصطفى { ءَادَمَ } أبا البشر ، بأن جعله خليفة في الأرض ، وعلمه الأسماء كلها ، وأسجد له ملائكته .

واصطفى { نُوحاً } لأنه - كما يقول الآلوسى - آدم الأصغر ، والأب الثاني للبشرية ، وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله - سبحانه - { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } واصطفى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أى عشيرته وذوي قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما .

واصطفى { آلَ عِمْرَانَ } إذ جعل فيهم عيسى - عليه السلام - الذى آتاه الله البينات ، وأيده بروح القدس .

والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى - عليه سلام - فهو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا . . . . وينتهي نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - .

وإن في ذلك التسلسل دليل على أن الله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن يجعل في الإنسانية من يهديها إلى الصراط المستقيم فقد ابتدأت الهداية بآدم أبى البشر كما قال - تعالى - : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } ثم جاء من بعده بقرون لا يعلمها إلا الله نوح - عليه السلام - فمكث يدعو الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق " ألف سنة إلا خمسين عاماً " ثم جاء من بعد ذلك إبراهيم - عليه السلام - فدعا الناس إلى عبادة الله وحده ، فكان هو وآله صفوة الخلق وفيهم النبوة فمن إسماعيل بن إبراهيم كان محمد صلى الله عليه وسلم الذى ختمت به الرسالات السماوية .

ومن إسحاق وبنيه كان عدد من الأنبياء كداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون . . . ومن فرع إسحاق كان آل عمران وهم ذريته وأقاربه كزكريا ويحيى وعيسى الذي كان آخر نبي من هذا الفرع .

وفى التعبير بالاصطفاء تنبيه إلى أن آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران صفوة الخلق ، إذ أن الرسل والأنبياء جميعا من نسلهم .

وقوله { عَلَى العالمين } أى على عالمى زمانهم . أى أهل زمان كل واحد منهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (33)

يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، فاصطفى آدم ، عليه السلام ، خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها ، لما له في ذلك من الحكمة .

واصطفى نوحا ، عليه السلام ، وجعله أول رسول [ بعثه ]{[4947]} إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان ، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا ، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه ، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، سرا وجهارًا ، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا ، فدعا عليهم ، فأغرقهم الله عن آخرهم ، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به .

واصطفى آل إبراهيم ، ومنهم : سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، وآل عمران ، والمراد بعمران هذا : هو والد مريم بنت عمران ، أم عيسى ابن مريم ، عليهم السلام . قال محمد بن إسحاق بن يَسار{[4948]} رحمه الله : هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا{[4949]} ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان{[4950]} بن رخيعم بن سليمان بن داود ، عليهما السلام . فعيسى ، عليه السلام ، من ذرية إبراهيم ، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام ، إن شاء الله وبه الثقة .


[4947]:زيادة من ج، ر، أ، و.
[4948]:في أ: "بشار".
[4949]:في و: "عزازيا".
[4950]:في ر، أ: "أثان"، وفي و" "أيان".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (33)

لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه ، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت ، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة التى { آل عمران } منها ثم خص { امرأة عمران } بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان و{ اصطفى } معناه : اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدراً ، و{ آدم } هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث{[3096]} وحكى الزجاج عن قوم { إن الله اصطفى آدم } عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله : { أنبئهم بأسمائهم }{[3097]} وهذا ضعيف ، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار ، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم ، كهود ولوط ، و{ آل إبراهيم } يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام والآل في اللغة ، الأهل والقرابة ، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل ، فمنه آل فرعون ، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو{[3098]} : [ الطويل ]

فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجنَّهُ . . . عليٌّ وَعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ

أراد جميع المؤمنين ، و «الآل » في هذه الآية يحتمل الوجهين ، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير { إن الله اصطفى } هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاماً يقدر محمداً عليه السلام من آل إبراهيم ، وإن قلنا أرد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم ، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن «الآل » الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى ، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم ، و{ آل عمران } أيضاً يحتمل من التأويل ما تقدم في { آل إبراهيم } ، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري ، قال مكي : هو عمران بن ماثال{[3099]} ، وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم ، وقال ابن عباس : «اصطفى الله » هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له .


[3096]:- الحديث وردت الإشارة إليه في أحاديث الشفاعة، وأخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل الملائكة؟ جبريل عليه السلام، وأفضل النبيين؟ آدم..) الحديث، (مجمع الزوائد 8/198، وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر قال: يا رسول الله أرأيت آدم كان نبيا؟ قال: (نعم كان نبيا رسولا كلمه الله، قال له: اسكن أنت وزوجك الجنة). (تفسير الشوكاني 1/55).
[3097]:- من الآية (33) من سورة البقرة.
[3098]:- هو أراكة بن عبد الله بن سفيان الثقفي، شاعر محسن، قتل بسر بن أرطأة أخاه عمرا، فرثاه بأبيات منها هذا البيت، وهو يخاطب فيها ابنه عبد الله، (انظر المؤتلف والمختلف للآمدي 67-68).
[3099]:- هو "ماثان" عند السهيل