وقوله - تعالى - { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} جواب القسم . والمراد بالإِنسان : جنسه ، والكبد : الشدة والتعب والمشقة ، من المكابدة للشئ ، بمعنى تحمل المشاق والمتاعب فى فعله ، وأصله من كَبِد الرجل - بزنة طرب - فهو أَكْبَد ، إذا أصيبت كبده بالمرض ، ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تعب ومشقة تنال الإِنسان .
والمعنى : لقد خلقنا الإِنسان لهذه الشدائد والآلام ، التى هى من طبيعة هذه الحياة الدنيا ، والتى لا يزال يكابدها وينوء بها ، ويتفاعل معها . . حتى تنتهى حياته ، ولا فرق فى ذلك بين غنى أو فقير ، وحاكم أو محكوم وصالح أو طالح . . فالكل يجاهد ويكابد ويتعب ، من أجل بلوغ الغاية التى يبتغيها .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَد } أى : فى تعب ومشقة ، فإنه لا يزال يقاسى فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها .
وعن ابن عمر - رضى الله عنهما - يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء . وقيل : لقد خلقناه منتصب القامة واقفا ، ولم نجعله منكبا على وجهه .
وقيل : جعلناه منتصبا رأسه فى بطن أمه ، فإذا أذن له فى الخروج قلب رأسه إلى قدمى أمه . . وهذه الأقوال ضعيفة لا يعول عليها ، والصحيح الأول . .
والحق أن تفسير الكبد بالمشقة والتعب ، هو الذى تطمئن إليه النفس ؛ لأنه لا يوجد فى هذه الحياة إِنسان إلا وهو مهموم ومشغول بمطالب حياته ، وفى كبد وتعب للحصول على آماله ورغباته وغاياته ، ورحم الله القائل :
تعب كلها الحياة فما أعجب . . . إلا من راغب فى ازدياد
وقال - سبحانه - { فِي كَبَد } للإِشعار بأنه لشدة مقاساته ومكابدته للمشاق والمتاعب ، وعدم انفكاكه عنها . . كالظِرف بداخل المظروف فهو فى محن ومتاعب ، حتى يصير إلى عالم آخر تغاير أحوالهُ أحوالَ هذا العالم .
وقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وخَيْثَمة ، والضحاك ، وغيرهم : يعني منتصبا - زاد ابن عباس في رواية عنه - في{[30079]} بطن أمه .
والكبد : الاستواء والاستقامة . ومعنى هذا القول : لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما كقوله : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [ الانفطار : 6 ، 7 ] ، وكقوله { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] .
وقال ابن [ أبي نجيحُ ]{[30080]} جريج وعطاء{[30081]} عن ابن عباس : في كبد ، قال : في شدّة خُلق ، ألم تر إليه ، وذكر مولده ونبات أسنانه .
قال مجاهد : { فِي كَبَدٍ } نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة يتكبد في الخلق - قال مجاهد : وهو كقوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } وأرضعته كرها ، ومعيشته كره ، فهو يكابد ذلك .
وقال سعيد بن جبير : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } في شدة وطَلَب معيشة . وقال عكرمة : في شدة وطول . وقال قتادة : في مشقة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلا من الأنصار عن قول الله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : في قيامه واعتداله . فلم يُنكر عليه أبو جعفر .
وروى من طريق أبي مودود : سمعت الحسن قرأ هذه الآية : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : يكابد أمرا من أمر الدنيا ، وأمرا من أمر الآخرة - وفي رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة .
وقال ابن زيد : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : آدم خلق في السماء ، فَسُمي ذلك الكَبَد .
واختار ابن جرير أن المراد [ بذلك ]{[30082]} مكابدة الأمور ومشاقها .
والقسم واقع على قوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } ، واختلف الناس في » الكَبد «فقال جمهور الناس : { الإنسان } اسم الجنس كله ، و » الكبد «المشقة والمكابدة ، أي يكابد أمر الدنيا والآخرة ، ومن ذلك قول لبيد : [ المنسرح ]
يا عين هلا بكيت أربد إذ . . . قمنا وقام الخصوم في كبد{[11824]}
لي ابن عم لو أن الناس في كبد . . . لظل محتجراً بالنبل يرميني{[11825]}
وبالمشقة في أنواع أحوال الإنسان فسره الجمهور ، وقال الحسن : لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم ، وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح ومجاهد { في كبد } معناه : منتصف القامة واقفاً{[11826]} ، وقال ابن زيد : { الإنسان } : آدم عليه السلام ، و { في كبد } معناه : في السماء سماها كبداً ، وهذان قولان قد ضعفا والقول الأول هو الصحيح ، وروي أن سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين{[11827]} رجل من قريش شديد القوة ، اسمه أسيد بن كلدة الجمحي ، كان يحسب أن أحداً لا يقدر عليه{[11828]} ، ويقال بل نزلت في عمرو بن ود ، ذكره النقاش ، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق ، وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة فقال : لقد { أهلكت مالاً } في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمداً{[11829]} ، وكان كل واحد منهم قد ادعى أنه أنفق مالاً كثيراً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما تقدم ، فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور ، وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.