ووقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم ، مظهرا الشكر لله - تعالى - ، والعجز أمام قدرته - عز وجل - شأن الحكام الصادقين فى إيمانهم ، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير .
وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه . . : { هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } .
أى : هذا الذى فعلته من بناء السد وغيره ، أثر من آثار رحمة ربى التى وسعت كل شئ .
{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } الذى حدده لفناء هذه الدنيا ونهايتها ، أو الذى حدده لخروجهم منه { جعله دكاء } أى : جعل هذا السد أرضا مستوية ، وصيره مدكوكا أى : بمساواة الأرض . ومنه قولهم : ناقة دكاء أى : لا سنام لها .
{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } أى : وكان كل ما وعد الله - تعالى - به عباده من ثواب وعقاب وغيرهما ، وعدا حقا لا يتخلف ولا يتبدل ، كما قال - سبحانه - :
{ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
وبذلك نرى فى قصة ذى القرنين ما نرى من الدروس والعبر والعظات ، التى من أبرزها . أن التمكين فى الأرض نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده . وأن السير فى الأرض لإِحقاق الحق وإبطال الباطل من صفات المؤمنين الصادقين ، وأن الحاكم العادل من صفاته : ردع الظالمين عن ظلمهم ، والإِحسان إلى المستقيمين المقسطين ، والعمل على ما يجعلهم يزدادون استقامة وفضلا ، وأن من معالم الخلق الكريم ، أن يعين الإِنسان المحتاج إلى عونه ، وأن يقدم له ما يصونه عن الوقوع تحت وطأة الظالمين المفسدين ، وأن من الأفضل أن يحتسب ذلك عند الله - تعالى - . وألا يطلب من المحتاج إلى عونه أكثر من طاقته .
كما أن من أبرز صفات المؤمنين الصادقين : أنهم ينسبون كل فضل إلى الله - تعالى - وإلى قدرته النافذة ، وأنهم يزدادون شكرا وحمداً له - تعالى - كلما زادهم من فضله ، وما أجمل وأحكم أن تختتم قصة ذى القرنين بقوله - تعالى - : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } .
ثم تسوق السورة الكريمة بعد قصة ذى القرنين آيات تذكر الناس بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتوبون ويتذكرون .
استمع إلى السورة الكريمة وهى تصور ذلك فتقول : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً . . . } .
وقوله : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : لما بناه ذو القرنين { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث{[18531]} في الأرض والفساد . { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي : إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي : ساواه{[18532]} بالأرض . تقول العرب : ناقة دكاء : إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها . وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } [ الأعراف : 143 ] أي : مساويًا للأرض{[18533]} .
وقال عكرمة في قوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } قال : طريقًا كما كان .
{ قال هذا } هذا السد أو الأقدار على تسويته . { رحمة من ربي } على عباده . { فإذا جاء وعد ربّي } وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة . { جعله دكاً } مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض ، مصدر بمعنى مفعول ومنه جمل أدك لمنبسط السنام . وقرأ الكوفيون دكاء بالمد أي أرضا مستوية . { وكان وعد ربي حقا } كائنا لا محالة وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .
جملة { قال هذا رحمة من ربي } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء حكاية وصف الردم كان ذلك مثيراً سؤال من يسأل : ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم ؟ فيجاب بجملة : { قال هذا رحمة من ربي } .
والإشارة بهذا إلى الرّدم ، وهو رحمة للناس لما فيه من ردّ فساد أمّة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة .
و ( من ) ابتدائية ، وجعلت من الله لأنّ الله ألهمه لذلك ويسرّ له ما هو صعب .
وفرع عليه { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً } نطقاً بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال . ولأنه علم أن عملاً عظيماً مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام ، وعلم أنّ ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيص منه لكلّ ذي سلطان .
والوعد : هو الإخبار بأمر مستقبل . وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم ، فاستعار له اسم الوعد . ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيئاً أو ألهمه إن كان صالحاً أن لذلك الردم أجلاً معيناً ينتهي إليه .
وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم « فُتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا ، وعقد بين أصبعيه الإبهام والسبابة » كما تقدم .
والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة ، أي جعله مدكوكاً ، أي مسوّى بالأرض بعد ارتفاع . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف { جَعلهُ دَكّاءَ } بالمد . والدكاء : اسم للناقة التي لا سنام لها ، وذلك على التشبيه البليغ .
وجملة { وكان وعد ربي حقاً } تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و { لكل أمة أجل } [ يونس : 49 ] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقاً ثابتاً لا يتخلف . وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلاً بديعاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.