ثم شرع - سبحانه - فى بيان وظيفة القرآن الكريم ، بعد أن وصفه بالاستقامة والإِحكام ، فقال : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ .
والإِنذار : الإِعلام المقترن بتخويف وتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .
واللام فى قوله { لينذر } متعلقة بأنزل ، والبأس : العذاب ، وهو المفعول الثانى للفعل ينذر ، ومفعوله الأول محذوف .
والمعنى : أنزل - سبحانه - على عبده الكتاب حالة كونه لم يجعل له عوجا بل جعله مستقيما ، لينذر الذين كفروا عذابا شديدا ، صادرا من عنده - تعالى - .
والتعبير بقوله { من لدنه } يشعر بأنه عذاب ليس له دافع ، لأنه من عند الله تعالى - القاهر فوق عباده .
أما وظيفة القرآن بالنسبة للمؤمنين ، فقد بينها - سبحانه - بعد ذلك فى قوله : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } .
أى : أنزل الله هذا القرآن ، ليخوف به الكافرين من عذابه ، وليبشر به المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات ، أن لهم من خالقهم - عز وجل - أجراً حسنا هو الجنة ونعيمها ، { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } أى : مقيمين فيه إقامة باقية دائمة لا انتهاء لها ، فالضمير فى قوله { فيه } يعود إلى الأجر الذى يراد به الجنة .
قال - تعالى - : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } ثم خص - سبحانه - بالإِنذار فرقة من الكافرين ، نسبوا إلى الله - تعالى - ما هو منزه عنه ، فقال : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } .
أما وظيفة القرآن بالنسبة للمؤمنين ، فقد بينها - سبحانه - بعد ذلك فى قوله : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } .
أى : أنزل الله هذا القرآن ، ليخوف به الكافرين من عذابه ، وليبشر به المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات ، أن لهم من خالقهم - عز وجل - أجراً حسنا هو الجنة ونعيمها .
{ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي : لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ، ينذره بأسًا شديدًا ، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة { مِنْ لَدُنْهُ } أي : من عند الله الذي لا يُعَذّب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي : مثوبة عند الله جميلة .
{ قيّماً } مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، أو { قيما } بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال ، أو على الكتب السابقة يشهد بصحتها ، وانتصابه بمضمر تقديره جعله قيما أو على الحال من الضمير في { له } ، أو من { الكتاب } على أن الواو { ولم يجعل } للحال دون العطف ، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير { قيما } . { ليُنذر بأسا شديدا } أي لينذر الذين كفروا عذبا شديدا ، فحذف المفعول الأول اكتفاء بدلالة القرينة واقتصارا على الغرض المسوق إليه . { من لدنه } صادرا من عنده ، وقرأ أبو بكر بإسكان الدال كإسكان الباء من سبع مع الإشمام ليدل على أصله ، وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع . { ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا } هو الجنة .
و «البأس الشديد » عذاب الآخرة ، ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها ، ونصبه على المفعول الثاني ، والمعنى لينذر العالم ، وقوله { من لدنه } أي من عنده ومن قبله ، والضمير في { لدنه } عائد على الله تعالى ، وقرأ الجمهور من «لدُنْهُ » بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «من لدْنِهِ » بسكون الدال وإشمام الضم فيها وكسر النون والهاء ، وفي «لدن » لغات ، يقال «لدن » مثل سبع ، «ولدْن » بسكون الدال «ولُدن » بضم اللام ، «ولَدَن » بفتح اللام والدال وهي لفظة مبنية على السكون ، ويلحقها حذف النون مع الإضافة ، وقرأ عبد الله وطلحة «ويَبْشُر » بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، وقوله { أن لهم أجراً } تقديره بأن لهم أجراً ، والأجر الحسن نعيم الجنة ، ويتقدمه خير الدنيا .
و { قيماً } حال من { الكتاب } أو من ضميره المجرور باللام ، لأنه إذا جعل حالاً من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد ، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب .
والقيم : صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه ، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله ، كما تقدم عند قوله تعالى : { الحي القيوم } في سورة البقرة ( 255 ) .
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها ، فالمراد أن كماله متعدّ بالنفع ، فوزانه وزان وصفه بأنه { هدى للمتقين } في سورة البقرة : ( 2 ) .
والجمع بين قوله : { ولم يجعل له عوجاً } وقوله : { قيماً } كالجمع بين { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] وبين { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وليس هو تأكيداً لنفي العوج .
{ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ }
{ لينذر } متعلق ب { أنزل } . والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة ، أي لينذر الله بأساً شديداً من لدنه ، والمفعول الأول ل { ينذر } محذوف لقصد التعميم ، أو تنزيلاً للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذَر به وهو البَأس الشديد تهويلاً له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله .
والبأس : الشدة في الألم . ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو . وقد تقدم في قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } من سورة البقرة ( 177 ) . والمراد هنا : شدة الحال في الحياة الدنيا ، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن ، وعليه درج الطبري . وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين ، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه ، فاستعمال ( لدن ) هنا في معنييه الحقيقي والمجازي .
وليس في جعل الإنذار ببأس الدنيا علّةً لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار عِلل إنزاله على ذلك ، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضُها ويُترك بعض .
وإنما آثَرْتُ الحمل على جعل اليأس الشديد بأسَ الدنيا للنقصي مما يرد على إعادة فعل { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } [ الكهف : 4 ] كما سيأتي .
ويجوز أن يراد بالبأس عذابُ الآخرة فإنه بأس شديد ، ويكون قوله : من لدنه } مستعملاً في حقيقته . وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين .
ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا ، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي ، ويكون استعمال من { لدنه } في معنييه الحقيقي والمجازي ، أما في عذاب الآخرة فظاهر ، وأما في عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه .
وحذف مفعول { ينذر } لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه ، ولدلالة مقابله عليه في قوله : { ويبشر المؤمنين } .
عطف على قوله : { لينذر بأساً } ، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجهاً إلى غيرهم .
وقوله : { أن لهم أجراً حسناً } متعلق ب { يبشر } بحذف حرف الجر مع ( أن ) ، أي بأن لهم أجراً حسناً . وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين . ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثيرٍ أو قليلٍ ، ولحُكْمِهِ أدلة كثيرة .