وقوله - سبحانه - بعد ذلك حكاية عن نوح - عليه السلام - : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } : بيان لما سلكه نوح فى دعوته لقومه ، من جمعه بين الترغيب والترهيب .
فهو بعد أن أرشدهم إلى أن استغفارهم وطاعتهم لربهم ، تؤدى بهم إلى البسطة فى الرزق . . أتبع ذلك بزجرهم لسوء أدبهم مع الله - تعالى - منكرا عليهم استهتارهم واستخفافهم بما يدعوهم إليه .
وقوله : { مَّا لَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم .
ولفظ " ترجون " يرى بعضهم أنه بمعنى تعتقدون . والوقار معناه : التعظيم والإِجلال .
والأطوار : جمع طور ، وهو المرة والتارة من الأفعال والأزمان .
أى : ما الذى حدث لكم - أيها القوم - حتى صرتم لا تعتقدون لله - تعالى - عظمة أو إجلالا ، والحال أنه - سبحانه - هو الذى خلقكم وأوجدكم فى أطوار متعددة ، نطفة ، فعلقة ، فمضغة .
كما قال - سبحانه - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } وكما قال - تعالى - { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف .
أى : مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم بالعقوبة .
وقيل : المعنى : ما لكم لا تعلمون لله عظمة . . أولا ترون لله عظمة . . أو لا تبالون أن لله عظمة .
واختلف الناس في معنى قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام : { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } فقال أبو عبيدة وغيره : { ترجون } معناه تخافون ، ومنه قول الشاعر [ أبو ذؤيب الهذلي ] : [ الطويل ]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . . . وحالفها في بيت نوب عوامل{[11346]}
قالوا والوقار : العظمة والسلطان ، فكأن الكلام على هذا وعيد وتخويف ، وقال بعض العلماء { ترجون } على بابها في الرجاء وكأنه قال : ما لكم لا تعجلون رجاءكم لله وتلقاءه وقاراً ، ويكون على هذا التاويل منهم كأنه يقول : تؤدة منكم وتمكناً في النظر لأن الكفر مضمنه الخفة والطيش وركوب الرأس .
بَدَّلَ خطابه مع قومه من طريقة النصح والأمر إلى طريقة التوبيخ بقوله : { ما لكم لا ترجون لله وقاراً .
وهو استفهام صورته صورة السؤال عن أمر ثبت لهم في حال انتفاء رجائهم توقيرَ الله .
والمقصود أنه لا شيء يثبت لهم صارف عن توقير الله فلا عذر لكم في عدم توقيره .
وجملة { لا تَرجُون } في موضع الحال من ضمير المخاطبين ، وكلمة ( مَا لَك ) ونحوها تلازمها حال بعدها نحو { فما لهم عن التذكرة معرضين } [ المدثر : 49 ] .
وقد اختلف في معنى قوله : { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } وفي تعلق معمولاته بعوامله على أقوال : بعضُها يرجع إلى إبقاء معنى الرجاء على معناه المعروف وهو ترقب الأمر ، وكذلك معنى الوقار على المتعارف وهو العظمة المقتضية للإِجلال ، وبعضها يرجع إلى تأويل معنى الرجاء ، وبعضها إلى تأويل معنى الوقار ، ويتركب من الحمل على الظاهر ومن التأويل أن يكون التأويل في كليهما ، أو أن يكون التأويل في أحدهما مع إبقاء الآخر على ظاهر معناه .
فعلى حمل الرجاء على المعنى المتعارف الظاهر وحمل الوقار كذلك قال ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية وعَطاء ابن أبي رباح وابن كيسان : ما لكم لا ترجون ثواباً من الله ولا تخافون عقاباً ، أي فتعبدوه راجين أن يثيبكم على عبادتكم وتوقيرِكم إياه . وهذا التفسير ينحو إلى أن يكون في الكلام اكتفاء ، أي ولا تخافون عقاباً ، وإن نكتة الاكتفاء بالتعجب من عدم رجاء الثواب : أن ذلك هو الذي ينبغي أن يقصده أهل الرشاد والتقوى . وإلى هذا المعنى قال صاحب « الكشاف » : إذ صدر بقوله : ما لكم لا تكونون على حال تأمُلُون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب .
وهذا يقتضي أن يكون الكلام كنايةً تلويحية عن حثهم على الإِيمان بالله الذي يستلزم رجاء ثوابه وخوفَ عقابه لأن من رجا تعظيم الله إياه آمن به وعبده وعمل الصالحات .
وعلى تأويل معنى الرجاء قال مجاهد والضحاك : معنى { لا ترجون } لا تبالون لله عظمة ، قال قطرب : هذه لغة حجازية لمضر وهُذيل وخزاعة يقولون : لم أرجُ أي لم أُبال ، وقال الوالبي والعَوفي عن ابن عباس : معنى { لا ترجون } لا تعلمون ، وقال مجاهد أيضاً : لا ترون ، وعن ابن عباس أنه سأَله عنها نافعُ بنُ الأزرق ، فأجابه أن الرجاء بمعنى الخوف ، وأنشد قول أبي ذؤيب :
إذا لسَعَتْه النحلُ لم يرج لَسْعها *** وحَالفها في بيت نُوبٍ عواسل
أي لم يَخَفْ لسعها واستمرّ على اشتيار العسل . قال الفراء : إنما يوضع الرجاء موضع الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف من الناس ومن ثم استعمل الخوف بمعنى العِلم كقوله تعالى : { فإن خِفتم أن لا يُقيما حدود الله الآية } [ البقرة : 229 ] ، والمعنى : لا تخافون عظمة الله وقدرته بالعقوبة .
وعلى تأويل الوقار قال قتادة : الوقار : العاقبة ، أي ما لكم لا ترجون لله عاقبة ، أي عاقبة الإِيمان ، أي أن الكلام كناية عن التوبيخ على تركهم الإِيمان بالله ، وجعل أبو مسلم الأصفهاني : الوقار بمعنى الثبات ، قال : ومنه قوله تعالى : { وقَرْن في بيوتكن } [ الأحزاب : 33 ] أي اثبُتن ، ومعناه ما لكم لا تُثبتون وحدانية الله .
وتتركب من هذين التأويلين معان أخرى من كون الوقار مسنداً في التقدير إلى فاعله أو إلى مفعوله ، وهي لا تخفى .
وأما قوله { لله } فالأظهر أنه متعلق ب { ترجون ، } ويجوز في بعض التأويلات الماضية أن يكون متعلقاً ب { وقاراً } : إمَّا تعلّق فاعل المصدر بمصدره فتكون اللام في قوله { لله } لشبه الملك ، أي الوقارَ الذي هو تصرف الله في خلقه إن شاء أن يوقركم ، أي يكرمكم بالنعيم ، وإِمّا تعلقَ مفعوللِ المصدر ، أي أن توقروا الله وتخشوه ولا تتهاونوا بشأنه تهاون من لا يخافه فتكون اللام لام التقوية .