والكاف فى قوله { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فى محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير : ومثل ذلك الفتون المتقدم الذى فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض ، ومن مظاهر ذلك أننا ابتلينا الغنى بالفقير ، والفقير بالغنى ، فكل واحد مبتلى بضده ، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم ، فامتنعوا عن الدخول فى الإسلام لذلك ، فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم وأما فتنة الفقراء بالأغنياء فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم . فكان ذلك فتنة لهم .
واللام فى قوله { ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } تعليلية لأنها هى للباعث على الاختبار أى : ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا .
والاستفهام فى قوله { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } للتقرير على أكمل وجه لأنه سبحانه محيط بكل صغير وكبير ودقيق وجليل .
وكذلك تكون الآيات الكريمة قد قررت أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة فى الدنيا ، ولكنه بمقدار شكر الله على ما أنعم ، وأنه سبحانه هو العالم وحده بمن يستحق الفضل علماً ليس فوقه علم .
وقوله : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض { لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول البعثه ، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قومُ نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } الآية [ هود : 27 ] ، وكما قال{[10707]} هرقل ملك الروم لأبي سفيان حين سأله [ عن تلك ]{[10708]} المسائل ، فقال له : فهل{[10709]} اتبعه ضعفاء الناس أو أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال : هم أتباع الرسل{[10710]}
والغرض : أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } ؟ أي : ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير - لو كان ما صاروا إليه خيرا - ويدعنا ، كما قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] ، وكما قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } [ مريم : 73 ] .
قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } [ مريم : 74 ] ، وقال في جوابهم حين قالوا : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } أي : أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إليه صراطًا مستقيما ، كما قال تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] . وفي الحديث الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " {[10711]}
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ومثل ذلك الفتن ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا . { فتنا } أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان . { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء . وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : { لو كان خيرا ما سبقونا إليه } . واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا { أليس الله بأعلم بالشاكرين } بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوقفه وبمن لا يقع منه فيخذله .
وقوله تعالى : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } الآية { فتنا } معناه في هذه الآية : ابتلينا ، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدراً ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة و { ليقولوا } معناه ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا ، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً }{[4931]} أي ليصير مثاله أن يكون لهم عدواً وقول المشركين على هذا التأويل { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } هو على جهة الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في { ليقولوا } على بابها في لام ( كي ) وتكون المقالة منهم استفهاماً لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم ، فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن هدي .
قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج ، و[ منّ ] على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين ، أي هؤلاء منّ الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة ، وقوله { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب ، فالله أعلم بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة{[4932]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.