ثم مدح - سبحانه - الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } .
المراد بالكتاب جملة القرآن الكريم ، وقيل : المراد به هنا السورة . وحرج الصدر ضيقه وغمه ، مأخوذ من الحرجة التي هى مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه طريقا يخرج منه .
والمعنى ، هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس . ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدوداً عنه ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب .
ولقد حكى لنا القرآن أن المشركين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه صاحر . أو مجنون ، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند الله ، فكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك .
قال تعالى : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } تقوية قلب النبى صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت فؤاده ، وتسليته عما يتقوله المشركون من أكاذيب وأباطيل ، وإفهام الداعى إلى الله في كل زمان ومكان أن من الواجب عليه أن يكون قوى القلب في تحمل مهمته ، مطمئن البال على حسن عاقبته ، لا يتأثر بالمخالفة ، ولا يضيق صدره بالإنكار .
وقد فسر صاحب الكشاف الحرج بالشك فقال : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى شك منه كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه . أى : لا تشك في أنه منزل من الله ، ولا تتحرج من تبليغه ، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم . فكان ضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم " .
وعلى أية حال فإن من فسر الحرج بالضيق راعى مدلول الكلمة الأصلى ومن فسره بالشك راعى الاستعمال المجازى ولذا قال الآلوسى :
قوله تعالى - : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى : شك . وأصله الضيق ، واستعماله في الشك مجاز علاقته اللزوم ، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر ، كما أن المتيقن يعتريه انشرحه وانفساحه " .
ولفظ { كِتَابٌ } يكون مبتدأ إذا جعلنا " ألمص " اسما للسورة ، وإلا كان خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير : هذا كتاب . وتنكيره للتفخيم والتعظيم وجملة { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل عليه .
وإنما قيل : { أُنزِلَ } ولم يقل أنزله الله وأنزلناه ، للإيذان بأن المنزل مستغن عن التعريف لشرفه وغاية ظهوره .
ثم بين - سبحانه - العلة في إنزال الكتاب فقال : { لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
الإنذار : هو الإعلام المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة .
أى : أنزلنا إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة ، لأنهم هم المستعدون لذلك ، وهم المنتفعون بإرشادك .
قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } وقال تعالى : { تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } وقال تعالى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } قال صاحب الكشاف : فما محل ذكرى ؟ قلت يحتمل الحركات الثلاث . النصب بإضمار فعلها . كأنه قيل : لتنذر به وتذكر تذكيرا ، لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفا على كتاب ، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف . والجر للعطف على محل لتنذر ، أى : للإنذار وللذكر " .
[ قوله ]{[11543]} { كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ } أي : هذا كتاب أنزل إليك ، أي : من ربك ، { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } قال مجاهد ، [ وعطاء ]{[11544]} وقتادة والسُّدِّي : شَكٌّ منه .
وقيل : لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به [ واصبر ]{[11545]} كما صبر أولو العزم من الرسل ؛ ولهذا قال : { لِتُنْذِرَ بِهِ } أي : أنزل إليك لتنذر به الكافرين ، { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
{ كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب ، أو خبر { المص } والمراد به السورة أو القرآن . { أُنزل إليك } صفته { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي شك ، فإن الشك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه ، أو تقصر في القيام بحقه ، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم لا أرينك ها هنا . والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل : إذا نزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك . { لتنذر به } متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه . { وذكرى للمؤمنين } يحتمل النصب بإضمار فعلها أي : لتنذر وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير ، والجر عطفا على محل تنذر والرفع عطفا على كتاب أو خبرا لمحذوف .
وقوله تعالى : { كتاب أنزل إليك } الآية ، قال الفراء وغيره { كتاب } رفع على الخبر للحروف ، كأنه قال هذه الحروف كتاب أنزل إليك ، ورد الزجّاج على هذا القول بما لا طائل فيه ، وقال غيره : { كتاب } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب و { أنزل إليك } في موضع الصفة ل { كتاب } ، ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجاً ، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه السلام ، وأصل الحرج الضيق ، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق ، و «الحرج » ها هنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر ، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج ها هنا ، وتفسيره بالشك قلق ، والضمير في { منه } عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه ، و «من » ها هنا لابتداء الغاية ، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية ، وقيل على الابتداء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك .
وقوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً ، وقوله { لتنذر } اللام متعلقة ب { أنزل } . وقوله { وذكرى } معناه تذكرة وإرشاد ، و { ذكرى } في موضع رفع عطفاً على قوله { كتاب } . فالتقدير هذه الحروف كتاب وذكرى ، وقيل رفعه على جهة العطف على صفة الكتاب فالتقدير هذه الحروف كتاب منزل إليك وذكرى ، فهي عطف على ( منزل ) داخلة في صفة الكتاب ، وقيل { ذكرى } في موضع نصب بفعل مضمر تقديره لتنذر به وتذكر ذكرى للمؤمنين ، وقيل نصبها على المصدر وقيل { ذكرى } في موضع خفض عطفاً على قوله { لتنذر } أي لإنذارك وذكرى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.