وقوله - تعالى - بعد ذلك : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } استثناء من المشركين في قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } .
والمعنى : اعلموا . أيها المؤمنون أن الله ورسوله بريئان من عهود المشركين بسبب نقضهم لها ، لكن الذين عاهدتموهم منهم ولم ينقضوا عهودهم ، ولم ينقصوكم شيئاً من شورط العهد ، ولم يعاونوا عليكم أحدا من الأعداء ، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ولا تعاملوهم معاملة الناكثين .
فالآية الكريمة تدل على أن المراد بالمشركين الذين تبرأ الله ورسوله منهم وأعطوا مهلة الأربعة الأشهر ، هم أولئك الذين عرفوا بنقض العهود .
أما الذين عاهدوا ووفوهم بعهودهم ، فإن هؤلاء يجب إتمام عهدهم إلى مدتهم وفاء بوفاء ، وكرامة بكرامة .
وعبر - سبحانه - بثم في قوله : { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادى المدة وتطاولها .
وقراءة الجمهور { يَنقُصُوكُمْ } بالصاد المهملة ، وعليها يجوز أن يتعدى لواحد فيكون شيئاً منصوباً على المصدرية أى : يم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا ، ويجوز أن يتعدى لاثنين فيكون شيئا مفعوله الثانى ، أى : لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد بل أدوها بتمامها .
وقرأ عطاء بن السائب الكوفى وعكرمة وأبو زيد { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ } بالضاد المعجمة وهى على حذف مضاف أى : ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
وفى تنكير كلمة " شيئا " وكلمة " أحدا " دلالة على أن انتقاص المعاهدة ولو شيئا يسيرا ، وأن معاونة الأعداء بأى وسيلة مهما قلت . . كل ذلك مبيح لنبذ العهد ، لأن الخيانة الصغيرة كثيرا ما تؤدى إلى الخيانة الكبيرة .
قالوا : والمراد بهؤلاء الذين أمر المسلمون بإتمام عهدهم معهم : بنو ضمرة وبنو مدلج وهم من قبائل بنى بكر وان قد بقى من عهدهم تسعة أشهر ، ولم ينقضوا مواثيقهم .
وقوله { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، والتنبيه على أن الوفاء بالعهد إلى نهايته مع الموفين بعهدهم منت تقوى الله التي يحبها لعباده ويحبهم بسببها .
قال صاحب المنار : والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإِسلام ما دام العهد معقدا ، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره .
فإن نقص شيئاً ما من شروط العهد ، وأخل بغرض ما من إغراضه عد ناقضاً ، لقوله - تعالى - { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } ، ولفظ شئ أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفى فيصدق بأدنى إخلال بالعهد .
ومن الضرورى أن من شروطه التي ينتقض بالإِخلال بها ، عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا ، وقد صرح بهذا للاهتمام به ، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله ، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر ، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر ، أى معاوته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به ، كمباشرته للقتال بنفسه .
يقال : ظاهره إذا عاونه ، وظاهره عليه إذا ساعده عليه ، وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة ، ومنه بعير ظهير أى قوى .
وقال بعض العلماء : ويؤخذ من هذا أن الإِسلام يقرر في حالة نبذ العهود لزوم إعلان العدو بذلك النبذ ، على وجه يمكن العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته .
وفى ذلك يقول الكمال بن الهام الفقيه الحنفى ، وهو بصدد قوله ، تعالى . { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } أنه لا يكفى مجرد إعلانهم ، بل لا بد من مضى مدة يتمكن فيه مَلِكُهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته ، ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شئ من أطرافهم قبل مضى المدة .
وذلك كله أثر من آثار وجوب رعاية العهد والبعد عن النكث بكل ما يستطاع .
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر ، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله ، أربعة أشهر ، يسيح في الأرض ، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد مؤقت ، فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث : " ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته " وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين أحدا ، أي : يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده{[13247]} إلى مدته ؛ ولهذا حرض{[13248]} الله تعالى على الوفاء بذلك فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : الموفين بعهدهم .
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين } استثناء من المشركين ، أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم . { ثم لم ينقصوكم شيئا } من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط . { ولم يظاهروا عليكم أحدا } من أعدائكم { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين . { إن الله يحب المتقين } تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى .
هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره في المشركين الذين بقي من عهدهم تسعة أشهر وكانوا قد وفوا بالعهد على ما يجب ، وقال قتادة : هم قريش الذين عوهدوا زمن الحديبية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الأذان بهذا كله ، وقال ابن عباس : قوله { إلى مدتهم } إلى الأربعة الأشهر التي في الآية ، وقرأ الجمهور «ينقصوكم » بالصاد غير منقوطة ، وقرأ عطاء بن يسار وعكرمة وابن السميفع «ينقضوكم » بالضاد من النقض وهي متمكنة مع العهد ولكنها قلقة في تعديلها إلى الضمير ، ويحسن ذلك أن النقض نقض وفاء وحق للمعاهد ، وكذلك تعدى «أتموا » ب «إلى » لما كان العهد في معنى ما يؤدى ويبرأ به{[5513]} وكأنهم يقتضون العهد ، و { يظاهروا } معناه يعاونوا ، والضمير المعين ، وأصله من الظهر كان هذا يسند ظهره إلى الآخر والآخر كذلك وقوله { إن الله يحب المتقين } تنبيه عكلى أن الوفاء بالعهد من التقوى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.