والخطاب فى قوله - تعالى - : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن . . . } للرسول صلى الله عليه وسلم وقوله { حجابا } من الحجب بمعنى المنع .
قال صاحب المصباح : حجبه حجبا - من باب قتل - : منعه . ومنه قيل للستر : حجاب ؛ لأنه يمنع المشاهدة . وقيل للبواب : حاجب ، لأنه يمنع من الدخول . والأصل فى الحجاب : جسم حائل بين جسدين ، وقد استعمل فى المعانى فقيل : العجز حاجب ، أى : بين الإِنسان ومراده . . .
وقوله { مستورا } ساترا ، فهو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل . كميمون بمعنى يامن . ومشئوم بمعنى شائم .
واختار بعضهم أن مستورا على معناه الظاهر ، من كونه اسم مفعول ، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه ، أو مستورا به القارئ فلا يراه غيره ، ويجوز أن يكون مستورا ، أى : ذا ستر فهو للنسب كمكان مهول : ذو هول . .
وللمفسرين فى تفسير هذه الآية أقوال ، أشهرها قولان :
أولهما يرى أصحابه ، أن المراد بالحجاب المستور : ما حجب الله به قلوب هؤلاء الكافرين عن الانتفاع بهدى القرآن الكريم ، بسبب جحودهم وجهلهم وإصرارهم على كفرهم . فهو حجاب معنوى خفى ، حال بينهم وبين الانتفاع بالقرآن .
فهم يستمعون إليه ، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له ، ويمانعون فطرتهم عن التأثر به ، فكان استماعهم له كعدمه ، وعاقبهم الله على ذلك بأن طمس بصائرهم عن فقهه .
والمعنى : وإذا قرأت - أيها الرسول الكريم - القرآن الهادى إلى الطريق التى هى أقوم ، جعلنا - بقدرتنا ، ومشيئتنا - ، بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ، حجابا يحجبهم ويمنعهم عن إدراك أسراره وهداياته ، وساترا بينك وبينهم ، بحيث لا يصل القرآن إلى قلوبهم وصول انتفاع وهداية .
ويشهد لهذا المعنى قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } ومن المفسرين الذين اكتفوا بهذا القول ، فلم يذكروا غيره ، الإِمام البيضاوى ، فقد قال - رحمه الله : قوله : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم { مستورا } ذا ستر : كقوله - تعالى - : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } أى مستورا عن الحس . . .
أما القول الثانى فيرى أصحابه : أن المراد بالحجاب المستور ، أن الله - تعالى - يحجب نبيه صلى الله عليه وسلم عن أعين المشركين ، بحيث لا يرونه فى أوقات معينة ، لحكم منها : النجاة من شرورهم .
فيكون المعنى : وإذا قرأت القرآن - أيها الرسول الكريم - جعلنا بينك وبين هؤلاء الكافرين ، حجابا ساترا لك عنهم بحيث لا يرونك ، عندما تكون المصلحة فى ذلك .
وقد استشهد أصحاب هذا القول بما أخرجه الحافظ أبو يعلى عن أسماء بنت أبى بكر قالت :
" لما نزلت سورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة ، وفى يدها فِهْر - أى حجر - وهى تقول : مُذَّمما أتينا ، وأمَره عصينا ، ودينه قَليْنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، وأبو بكر إلى جنبه .
فقال أبو بكر : يا رسول الله ، لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إنها لن ترانى " وقرأ قرآنا اعتصم به منها ، ومما قرأه - : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } .
فجاءت حتى قامت على أبى بكر ، فلم تر النبى صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغنى أن صاحبك هجانى : فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك .
فانصرفت وهى تقول : لقد علمت قريش أنى بنت سيدها " .
ومن المفسرين الذين استظهروا هذا القول ، الإِمام القرطبى ، فقد قال بعد أن ذكر ما روى عن أسماء بنت أبى بكر - رضى الله عنها - : وقال سعيد بن جبير : " لما نزلت سورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } جاءت امرأة أبى لهب إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ، فقال أبو بكر لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك فإنها امرأة بَذِيَّة .
فقال صلى الله عليه وسلم : " إنه سيحال بيني وبينها " فلم تره . فقالت لأبى بكر : يا أبا بكر هجانا صاحبك .
فقال أبو بكر : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله . فاندفعت راجعة . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما رأتك ؟ .
قال : لا . ما زال ملك بينى وبينها يسترنى حتى ذهبت " .
ثم قال القرطبى : وقيل : الحجاب المستور ، طَبْعُ الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه : ولا يدركوا ما فيه من الحكمة . قاله قتادة . وقال الحسن : أى أنهم لإِعراضهم عن قراءتك ، وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب فى عدم رؤيتهم لك ، حتى كأن على قلوبهم أغطية . . .
ثم قال : والقول الأول أظهر فى الآية .
ويبدو لنا أن كلا القولين صحيح فى ذاته ، وأن كل واحد منهما يحكى حالات معينة ، ويشهد لذلك ما نقله الجمل فى حاشيته على الجلالين عن شيخه فقد قال - رحمه الله - . قوله : { حجابا مستورا } ، أى : ساترا لك عنهم فلا يرونك وهذا بالنسبة لبعضهم ، كان يحجب بصره عن رؤية النبى صلى الله عليه وسلم إذا أراده بمكروه وهو يقرأ القرآن : وبعضهم كان يحجب قلبه عن إدراك معانى القرآن . . وبعضهم كان ينفر عند قراءة القرآن . . .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا قرأت - يا محمد - على هؤلاء المشركين القرآن ، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورًا .
قال قتادة ، وابن زيد : هو الأكنّة على قلوبهم ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] أي : مانع حائل{[17560]} أن يصل إلينا مما تقول شيء .
وقوله : { حِجَابًا مَسْتُورًا } أي : بمعنى ساتر ، كميمون ومشئوم ، بمعنى : يامن وشائم ؛ لأنه من يَمنهم وشَأمَهم .
وقيل : مستورًا عن الأبصار فلا تراه ، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى ، ومال إلى ترجيحه ابن جرير ، رحمه الله .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا سفيان ، عن الوليد بن كثير ، عن يزيد بن تدرس ، عن أسماء بنت أبي بكر [ الصديق ]{[17561]} رضي الله عنها{[17562]} ، قالت : لما نزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتبٍٍَ } [ سورة المسد ] جاءت العوراء أم جميل ولها ولوَلة ، وفي يدها فِهْر وهي تقول : مُدَمَّما أتينا - أو : أبينا ، قال أبو موسى : الشك مني - ودينه قَلَيْنَا ، وأمره عصينا . ورسول الله جالس ، وأبو بكر إلى جنبه - أو قال : معه - قال : فقال أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال : " إنها لن تراني " ، وقرأ قرآنا اعتصم به منها : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } . قال : فجاءت حتى قامت على أبي بكر ، فلم تر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني . فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك . قال : فانصرفت وهي تقول : لقد{[17563]} علمت قريش أني بنت سيدها{[17564]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ حِجَاباً مّسْتُوراً } .
يقول تعالى ذكره : وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالبعث ، ولا يقرّون بالثواب والعقاب ، جعلنا بينك وبينهم حجابا ، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم ، فينتفعوا به ، عقوبة منا لهم على كفرهم . والحجاب ههنا : هو الساتر ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخرة حِجابا مَسْتُورا الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به ، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حِجابا مَسْتُورا قال : هي الأكنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ حِجابا مَسْتُورا قال : قال أُبيّ : لا يفقهونه ، وقرأ قُلُوبُهُمْ فِي أكِنّةٍ وفِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ لا يخلص ذلك إليهم .
وكان بعض نحوييّ أهل البصرة يقول : معنى قوله حِجابا مَسْتُورا حِجابا ساترا ، ولكنه أخرج وهو فاعل في لفظ المفعول ، كما يقال : إنك مشئوم علينا وميمون ، وإنما هو شائم ويامن ، لأنه من شأمهم ويمنهم . قال : والحجاب ههنا : هو الساتر . وقال : مستورا . وكان غيره من أهل العربية يقول : معنى ذلك : حجابا مستورا عن العباد فلا يرونه .
وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام أن يكون المستور هو الحجاب ، فيكون معناه : أن لله سترا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم ، وإن كان للقول الأوّل وجه مفهوم .
هذه الآية تحتمل معنيين : أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه ، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية ، والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه السلام حجاباً ، فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها ، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين ، وقوله { مستوراً } أظهر ما فيه أن يكون نعتاً للحجاب ، أي مستوراً عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب ، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين ، وقيل التقدير مستوراً به على حذف العائد وقال الأخفش { مستوراً } بمعنى ساتر كمشؤوم وميمون فإنهما بمعنى شائم ويامن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لغير داعية إليه ، تكلف ، وليس مثاله بمسلم ، وقيل هو على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وهذا معترض بأن المبالغة أبداً إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول ، فلو قال حجاباً حاجباً لكان التنظير صحيحاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا قرأت القرآن} في الصلاة، أو غير الصلاة،
{جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة}، يعني: لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالبعث، ولا يقرّون بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرأه عليهم، فينتفعوا به، عقوبة منا لهم على كفرهم. والحجاب ههنا: هو الساتر فيكون معناه: أن لله سترا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم... عن قتادة، قوله:"وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجابا مَسْتُورا" الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... جائز أن يكون ما ذكر من الحجاب، هو حجاب الفهم؛ وذلك أنهم كانوا ينظرون إليه بالاستخفاف والاستهزاء به، فحجبوا عن فهم ما فيه، وهو كقوله: {سأصرف عن آيتي الذين يتكبرون في الأرض بغير حق} الآية (الأعراف: 146) يدل على ذلك قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} الآية (الأنعام: 25واالإسراء: 46 والكهف: 57)... ثم قال الحسن في قوله: {جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} أي طبع على قلوبهم حتى لا يؤمنوا...
وقال أبو بكر الأصم: أضاف ذلك إليه لأنهم أنفوا عن إتباع الرسل، وتكبروا عليهم، فاستكبروا... وأصله أن ما ذكر من الحجاب والغلاف والأكنة إنما هو على العقوبة لهم لعنادهم ومكابرتهم لأنهم كلما ازدادوا عنادا وتمردا ازدادت قلوبهم ظلمة وعمى، وهو ما ذكر في غير آية حين قال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} الآية (الصف: 5) وقال: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} (التوبة: 127) وقال {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 14). أخبر أن ما ران على قلوبهم بكسبهم الذي كسبوا، وأزاغ قلوبهم باختيارهم الزيغ، وصرف قلوبهم باختيارهم الانصراف. فعلى ذلك ما ذكر من جعل الحجاب والأكنة عليها بما كان منهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "وإذا قرأت القرآن "خطاب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه متى قرأ القرآن "جعلنا بينك" يا محمد "وبين" المشركين "حجابا مستورا" أي كأن بينك وبينهم حجابا من أن يدركوا ما فيه من الحكمة وينتفعوا به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية،
والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه السلام حجاباً...
{مستوراً} أظهر ما فيه أن يكون نعتاً للحجاب، أي مستوراً عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
المعنى: جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره، والإيمان به، وبينه قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا}. [الإسراء: 47]. وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5] فأخبر سبحانه أن ذلك جعله. فالحجاب يمنع من رؤية الحق، والأكنة تمنع من فهمه، والوقر يمنع من سماعه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قرر في سياق التوحيد أنهم في الحضيض من الغباوة، التفت إلى سيد أولي الفهم، فقال مشيراً إلى النبوة عاطفاً على {لا تفقهون} منبهاً على أنهم لا يفهمون لسان القال فضلاً عن لسان الحال: {وإذا قرأت القرءان} الذي لا يدانيه واعظ، ولا يساويه مفهم، وهو تبيان لكل شيء {جعلنا} أي بما لنا من العظمة {بينك} وبينهم، ولكنه أظهر هذا المضمر بالوصف المنبه على إعراضهم عن السماع على الوجه المفهم فقال تعالى: {وبين الذين لا يؤمنون} أي لا يتجدد لهم إيمان {بالآخرة} أي التي هي قطب الإيمان {حجاباً} مالئاً لجميع ما بينك وبينهم مع كونه ساتراً لك عن أن يدركوك حق الإدراك على ما أنت عليه {مستوراً} عنهم وعن غيرهم، لا يراه إلا من أردنا، وذلك أبلغ في العظمة وأعجب في نفوذ الكلمة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} الناطقَ بالتسبيح والتنزيهِ ودعوتَهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ورفضِ الشرك وغيرِ ذلك من الشرائع {جَعَلْنَا} بقدرتنا ومشيئتنا المبنيةِ على دواعي الحِكَم الخفية {بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أُوثر الموصولُ على الضمير ذمًّا لهم بما في حيز الصلة، وإنما خُصَّ بالذكر كفرُهم بالآخرة من بين سائرِ ما كفروا به من التوحيد ونحوِه دَلالةً على أنها مُعظمُ ما أُمروا بالإيمان به في القرآن، وتمهيداً لما سينقل عنهم من إنكار البعثِ واستعجالِه ونحو ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له، ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به؛ فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا، حجابا خفيا،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
حقيقة الحجاب: الساتر الذي يحجب البصر عن رؤية ما وراءه. وهو هنا مستعار للصرفة التي يصرف الله بها أعداء النبي عليه الصلاة والسلام عن الإضرار به للإعراض الذي يعرضون به عن استماع القرآن وفهمه. وجعل الله الحجاب المذكور إيجادَ ذلك الصارف في نفوسهم بحيث يهمون ولا يفعلون، وذلك من خور الإرادة والعزيمة بحيث يخطر الخاطر في نفوسهم ثم لا يصممون، وتخطر معاني القرآن في أسماعهم ثم لا يتفهمون... ولما كان إنكارهم البعث هو الأصل الذي استبعدوا به دعوة النبي حتى زعموا أنه يقول محالاً إذ يخبر بإعادة الخلق بعد الموت {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كل ممزق إنكم لفي خَلْق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 7 -8] استحضروا في هذا الكلام بطريق الموصولة لما في الصلة من الإيماء إلى علة جَعل ذلك الحجاب بينه وبينهم فلذلك قال: وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... لعل الأظهر في معناه هو الحجاب النفسي الذي جعله الله من خلال حالتهم الداخلية في رفض الإيمان ومواجهة القرآن بطريقة اللاّمبالاة، ما يجعلهم لا يدركون مضامينه في العقيدة والشريعة، ولا يلتزمون مفاهيمه في الكون والحياة، كأيّة حالةٍ داخليةٍ رافضةٍ في تأثيرها السلبي على وعي الإنسان للمسألة المرفوضة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... هَذا الحجاب والساتر هو نفسهُ التعصُّب واللجاجة والغرور والجهل، حيث تقوم هَذِهِ الصفات بصد حقائق القرآن عن أفكارهم وعقولهم وَلا تسمح لهم بدرك الحقائق الواضحة مِثل التوحيد والمعاد وَصدق الرّسول في دعوته وَغير ذلك.