وقوله - سبحانه - { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } بيان للآثار الفظيعة التى ترتبت على ما فعلته الحجارة التى أرسلتها الطيور عليهم بإذن الله - تعالى - .
والعصف : ورق الزرع الذى يبقى فى الأرض بعد الحصاد ، وتعصفه الرياح فتأكله الحيوانات . أو هو التبن الذى تأكله الدواب .
أى : سلط الله - تعالى - عليهم طيرا ترميهم بحجارة من طين متحجر ، فصاروا بسبب ذلك صرعى هالكين ، حالهم في تمزقهم وتناثرهم كحال أوراق الأشجار اليابسة ، أو التبن الذي تأكله الدواب .
وهكذا نرى السورة الكريمة قد ساقت من مظاهرة قدرة الله - تعالى - ما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم ، وما يحمل الكافرين على الاهتداء إلى الحق ، والإِقلاع عن الشرك والجحود لو كانوا يعقلون .
قال ابن هشام : الأبابيل الجماعات ، ولم تتكلم العرب بواحدة . قال : وأما السجيل ، فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب : الشديد الصلب . قال : وذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية ، جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سنج وجل ، يعني بالسنج : الحجر ، والجل : الطين . يقول : الحجارة من هذين الجنسين : الحجر والطين .
قال : والعصفُ : ورقُ الزرع الذي لم يُقضب ، واحدته عصفة . انتهى ما ذكره{[30537]} .
وقد قال حماد بن سلمة : عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله - وأبو سلمة بن عبد الرحمن - : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : الفرق{[30538]} .
وقال ابن عباس ، والضحاك : أبابيل يتبع بعضها بعضًا . وقال الحسن البصري ، وقتادة : الأبابيل : الكثيرة . وقال مجاهد : أبابيل : شتى متتابعة مجتمعة . وقال ابن زيد : الأبابيل : المختلفة ، تأتي من هاهنا ، ومن هاهنا ، أتتهم من كل مكان .
وقال الكسائي : سمعت [ النحويين يقولون : أبول مثل العجول . قال : وقد سمعت ]{[30539]} بعض النحويين يقول : واحد الأبابيل : إبيل .
وقال ابن جرير : [ حدثنا ابن المثنى ]{[30540]} حدثني عبد الأعلى ، حدثني داود ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ؛ أنه قال في قوله : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } هي : الأقاطيع ، كالإبل المؤبلة .
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب .
وحدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : كانت طيرًا خضرا خرجت من البحر ، لها رءوس كرءوس السباع .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : هي طير{[30541]} سود بحرية ، في منقارها{[30542]} وأظافيرها الحجارة .
وقال سعيد بن جبير : كانت طيرًا خضرا لها مناقير صفر ، تختلف عليهم .
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مُغْرب . رواه عنهم ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير ، قال : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل ، بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر ، أمثال الخطاطيف . كل طير منها تحمل ثلاثة أحجار مجزعة : حجرين في رجليه ، وحجرا في منقاره . قال : فجاءت حتى صفت على رءوسهم ، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها ، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره ، ولا يقع على شيء من جسده إلا وخرج من الجانب الآخر . وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة ، فأهلكوا جميعا .
وقال السُّدِّي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } قال : طين في حجارة : " سنك - وكل " وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة : هبور . وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة . وعنه أيضا : العصف : التبن . والمأكول : القصيل يجز للدواب . وكذلك قال الحسن البصري .
وعن ابن عباس : العصف : القشرة التي على الحبة ، كالغلاف على الحنطة .
وقال ابن زيد : العصف : ورق الزرع ، وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار درينا{[30543]} .
والمعنى : أن الله ، سبحانه وتعالى ، أهلكهم ودمرهم ، وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرًا ، وأهلك عامتهم ، ولم يرجع منهم بخير إلا وهو جريح ، كما جرى لملكهم أبرهة ، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء ، وأخبرهم بها{[30544]} جرى لهم ، ثم مات . فملك بعده ابنه يكسوم ، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة{[30545]} ثم خرج سيف بن ذي يَزَن الحميري إلى كسرى فاستغاثه{[30546]} على الحبشة ، فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه ، فرد الله إليهم ملكهم ، وما كان في آبائهم من الملك ، وجاءته وفود العرب للتهنئة .
وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مُقْعَدَين ، يستطعمان{[30547]} ورواه الواقدي ، عن عائشة مثله . ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : كانا مقعدين يستطعمان الناس ، عند إساف ونائلة ، حيث يذبح المشركون ذبائحهم .
قلت : كان اسم قائد الفيل : أنيسا .
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " من طريق ابن وهب ، عن ابن لَهِيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل ، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن ، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له : شمر بن مفصود ، وكان الجيش عشرين ألفًا ، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى .
وهذا السياق غريب جدًا ، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره . والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار . وهكذا روى ابن لَهِيعة ، عن الأسود ، عن عُرْوَة : أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل ، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه ، والصحيح قدومه ، ولعل ابن مقصود كان على مقدمة الجيش ، والله أعلم .
ثم ذكر ابن إسحاق شيئًا من أشعار العرب ، فيما كان من قصة أصحاب الفيل ، فمن ذلك شعر عبد الله بن الزبعرى :
تَنَكَّلُوا عن بطن مَكَّةَ إنها *** كانتْ قديمًا لا يُرَام حَريمها
لم تُخلَق الشِّعرَى ليالي حُرّمتْ *** إذ لا عزيزَ من الأنام يَرُومها
سائل أميرَ الجيش عنها ما رَأى? *** فلسوفَ يُنبي الجاهلين عليمها . . .
ستونَ ألفًا لم يؤوبوا أرَضهم *** بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانتْ بها عادٌ وجُرْهُم قبلهم *** واللهُ من فوق العباد يُقيمها{[30548]}
وقال أبو قيس{[30549]} بن الأسلت الأنصاري المري :{[30550]}
ومن صُنْعه يوم فيل الحُبُو *** ش ، إذ كل ما بَعَثُوه رَزَمْ
محاجنهم تحت أقرابه *** وقد شَرَموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولا *** إذا يَمَّمُوه قَفَاه كُليم
فَسوَّل{[30551]} أدبر أدراجه *** وقد باء بالظلم من كان ثمَّ
فأرسل من فوقهم حاصبًا *** يَلُفهُم مثْلَ لَف القزُم
تحث على الصَّبر أحبارُهم *** وَقَد ثأجُوا كَثؤاج الغَنَم
وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي ، ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة :
إن آيات رَبِّنا بَاقياتٌ *** مَا يُمَاري فيهنَّ إلا الكفورُ
خُلِقَ الليلُ والنهارُ فَكُلّ *** مستبينٌ حسابُه مَقْدُورُ
ثمَّ يجلو النَّهارَ ربٌ رحيمٌ *** بمهاة شُعَاعها منشورُ
حُبِسَ الفيلُ بالمُغمَّس حَتَّى *** صار يَحْبُو ، كأنه معقورُ
لازمًا حلقُه الجرانَ كما قُطِّر *** من ظَهْر كَبْكَب مَحدُورُ
حَوله من مُلُوك كِندةَ أبطالُ *** ملاويثُ في الحُرُوب صُقُورُ
خَلَّفُوه ثم ابذَعرّوا جَميعًا ، *** كُلَّهم عَظْمُ ساقه مَكْسُورُ
كُلّ دين يَومَ القِيَامة عندَ ال *** له إلا دِينُ الحَنِيفَة بورُ
وقد قدمنا في تفسير " سورة الفتح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته ، فزجروها فألحَّت ، فقالوا : خلأت القصواء ، أي : حَرَنت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ، ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم خطة يُعَظمون فيها حُرُمات الله ، إلا أجبتهم إليها " . ثم زجرها فقامت . والحديث من أفراد البخاري{[30552]} .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسَلَّط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب " {[30553]} . آخر تفسير سورة " الفيل " .
وقوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكولٍ } يعني تعالى ذكره : فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدوابّ فراثته ، فيبس وتفرّقت أجزاؤه ، شبّه تقطّع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم ، وتفرّق آراب أبدانهم بها ، بتفرّق أجزاء الروث ، الذي حدث عن أكل الزرع .
وقد كان بعضهم يقول : العَصْف : هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة من خارج ، كهيئة الغلاف لها . ذكر من قال : عُنِي بذلك ورق الزرع :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : ورق الحنطة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ }قال : هو التّبن .
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } : كزرع مأكول .
حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ ، قال : حدثنا زريق بن مرزوق ، قال : حدثنا هبيرة ، عن سَلَمة بن نُبَيط ، عن الضحاك ، في قوله { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : هو الهَبُور بالنبطية ، وفي رواية : المقهور .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : ورق الزرع وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار رَوْثا .
ذكر من قال : عُني به قشر الحبّ :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : البُرّ يؤكل ويُلْقى عَصْفُه الريح . والعَصْف : الذي يكون فوق البرّ : هو لحاء البرّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت : { كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } قال : كطعام مطعوم .
و «العصف » : ورق الحنطة وتبنه ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها . . . حدورها من أتيّ الماء مطموم{[11990]}
والمعنى صاروا طيناً ذاهباً كورق حنطة أكلته الدواب وراثته{[11991]} فجمع المهانة والخسة وأتلف ، وقرأ أبو الخليج الهذلي{[11992]} " فتركتهم كعصف " ، قال أبو حاتم ، وقرأ بعضهم : «فجعلتهم » يعنون الطير بفتح اللام وتاء ساكنة ، وقال عكرمة : العصف حب البر إذا أكل فصار أجوف ، وقال الفراء : هو أطراف الزرع قبل أن يسنبل ، وهذه السورة متصلة في مصحف أبي بن كعب بسورة { لإيلاف قريش } لا فصل بينهما{[11993]} ، وقال سفيان بن عيينة : كان لنا إمام يقرأ بهما متصلة سورة واحدة .