التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

ثم قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ . . . }

بعد أن بين - سبحانه - في الآية السابقة أن الله - تعالى - قد أخذ على بني إسرائيل عهداً بأن يعبدوه ويؤدوا فرائض الله ، إلا أنهم نقضوا هذا العهد وتولوا عنه سوى قليل منهم بعد ذلك بين في هذه الآية الكريمة أنه - سبحنه - أخذ علهيم عهداً آخر ولكنهم نقضوه كما هو دأبهم .

وملخص هذا العهد الذي ذكرته الآيات الكريمة ، أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق ألا يقتل بعضهم بعضاً ، وألا يخرج بعضهم بعضاً من داره ، وأنهم إذا وجدوا أسيراً منهم في يد غيرهم فإن عليهم أن يبذلوا أموالهم لفدائه من الأسر ، وتخليصه من أيدي أعدائهم ، ثم لما نشبت الحرب بين قبيلتي الأوس والخزرج ، الأوس والخزرج ، وصارت كل طائفة من طوائف اليهود تقاتل بجانب أبناء ملتهم المنضمين إلى حلفئهم الآخرين فإذا وضعت الحرب أوزارها ، بذل جميع اليهود أموالهم لتخليص الأسرى من أعدائهم كما أمرهم - تعالى - وبهذا يكونون قد آمنوا ببعض الكتاب وهو بذل الفداء لتخليص الأسرى ، وكفروا ببعضه وهو تحريم سفك دماء إخوانهم وإخراجهم من ديارهم ، ويحيكى التاريخ أن العرب كانوا يعيرونهم فيقولون لهم : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم ؟ فكان اليهود يقولون : قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفتدي أسرانا .

وقد توعدهم - سبحانه - بالخزي في الدنيا والآخرة ، جزاء نقضهم لعهوده ، وتفريقهم بين أحكامه .

والمعنى الإِجمالي للآيات الكريمة : واذكروا - أيضاً - يا بني إسرائيلٍ وقت أن أخذنا عليكم العهد ، وأوصيناكم فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل ، وبألا يخرج بعضكم بعضاً من مساكنهم ، ثم أقررتم وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد ، والالتزام بما جاء فيه ، ثم أنتم هؤلاء - يا معشر اليهود - بعد إقراركم بالميثاق ، وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه ، خرجتم على تعاليم التوراة ، فنقضتم عهودكم ، وأراق بعضكم دماء بعض ، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم من ديارهم ظلماً وعدواناً ، وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم ، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم ، فلم لم تتبعوا حكم التوراة في النهي عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم ؟ وكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار ، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم ؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله جزاء فاعله الهوان في الدنيا . والعذاب الدائم في الأخرى ، وما الله بغافل عما تعملون . ولا شك أن أولئك اليهود الذين نقضوا عهودهم ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، قد باعوا دينهم بدنياهم ، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون .

وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } معناه : اذكروا حين أخذنا العهد عليكم يا بني إسرائيل ألا يسفك أحد منكم دم غيره ، وألا يخرجه من دياره .

على حد قوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } أي فليسلم بعضكم على بعض .

وفائدة هذا التعبير ، التنبيه إلى أن الأمة المتواصلة بالدين ، يجب أن يكون شعورها بالوحدة قوياً وعميقاً ، بحيث يكون قتل الرجل لغيره قتلا لنفسه ، وإخراجه له من داره إخراجاً لها .

قال صاحب المنار : ( وقد أورد - سبحانه - النهي عن سفك بعضهم دم بعض ، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم ، بعبارة تؤكد وحدة الأمة ، وتحدث في النفس أثراً شريفاً ، يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر ، ووجدان يتأثر فقال تعالى :

{ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ } فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده . وقال تعالى : { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } على هذا النسق ، وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن الكريم

وقوله تعالى : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } تسجيل عليهم بأنهم قد قبلوا العمل بالميثاق والتزموا به ، إذ المعنى . ثم اعترفتم بهذا الميثاق - أيها اليهود - ولم تنكروه ، فكان من الواجب عليكم أن تفوا به ، فماذا كان موقفهم بعد هذا الإقرار والإِشهاد ؟

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

يقول ، تبارك وتعالى ، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل : بنو قينقاع . وبنو النضير حلفاء الخزرج . وبنو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت{[2106]} بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ، فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب ، عملا بحكم التوراة ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ، كما قال تعالى : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ]

وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .

[ وقوله ]{[2107]} { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي : ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به .


[2106]:في أ: "نشئت".
[2107]:زيادة من جـ، ط، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مّن دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }

قال أبو جعفر : قوله : { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } في المعنى والإعراب نظير قوله : { وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ } . وأما سفك الدم ، فإنه صبه وإراقته .

فإن قال قائل : وما معنى قوله : لا تَسْفِكونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ؟ وقال : أَوَ كان القوم يقتلون أنفسهم ، ويخرجونها من ديارها ، فنهوا عن ذلك ؟ قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ ، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا ، فكان في قتل الرجل منهم الرجلَ قتلُ نفسه ، إذْ كانت ملّتهما بمنزلة رجل واحد ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «إنّمَا المُؤْمِنُونَ فِي تَرَاحُمِهمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَيْنَهُمْ بمَنْزِلَةِ الجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سائرُ الجَسَدِ بِالحُمّى وَالسّهَرِ » .

وقد يجوز أن يكون معنى قوله : { لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم ، فيقاد به قصاصا ، فيكون بذلك قاتلاً نفسه لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل ، فأضيف بذلك إليه قتل وليّ المقتول إياه قصاصا بوليه ، كما يقال للرجل يركب فعلاً من الأفعال يستحقّ به العقوبة فيعاقب العقوبة : أنت جنيت هذا على نفسك .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا يقتل بعضكم بعضا ، { وَلاَ تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ }ونفسُك يا ابن آدم أهل ملّتك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { وَإذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } يقول : لا يقتل بعضكم بعضا ، { وَلاَ تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } يقول : لا يخرج بعضكم بعضا من الديار .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة في قوله : { لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ } يقول : لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق { وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ } .

يعني بقوله : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ } بالميثاق الذي أخذنا عليكم { لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } . كما :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ } يقول : أقررتم بهذا الميثاق .

وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } .

اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله { وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } .

فقال بعضهم : ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهرانَيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرّون بحكمها ، فقال الله تعالى لهم : ثُمّ أقْرَرْتُمْ يعني بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم وأنْتُمُ تَشْهَدُونَ على إقراركم بأخذ الميثاق عليهم ، بأن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، ويصدقون بأن ذلك حقّ من ميثاقي عليهم . وممن حكي معنى هذا القول عنه ابن عباس .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وأنْتُمُ تَشْهَدُونَ أن هذا حق من ميثاقي عليكم .

وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم ، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة على النحو الذي وصفنا في سائر الاَيات التي هي نظائرها التي قد بينا تأويلها فيما مضى . وتأولوا قوله وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ على معنى : وأنتم شهود . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قوله : { وأنتُمْ تَشْهَدُونَ }يقول : وأنتم شهود .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي أن يكون قوله : { وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } خبرا عن أسلافهم ، وداخلاً فيه المخاطبون منهم الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان قوله : { وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ } خبرا عن أسلافهم وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه ، فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم . ثم أنّب الذين خاطبهم بهذه الاَيات على نقضهم ونقض سلفهم ذلك الميثاق ، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود ، بقوله : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } ، فإنْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم ، فإنه معنيّ به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده ، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } وما أشبه ذلك من الاَي بعضهم دون بعض والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم .

فإنْ كان ذلك كذلك فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض . وكذلك حكم الآية التي بعدها ، أعني قوله : { ثُمّ أنْتُمُ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ } الآية ، لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } ( 84 )

والسفك صب الدم وسرد الكلام ، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفُكون » بضم الفاء ، وقرأ أبو نهيك «تُسفِّكون » بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها ، وإعراب { لا تسفكون } كما تقدم في { لا تعبدون } ، و { دماءكم } جمع دم ، وهو اسم منقوص أصله دمي ، وتثنيته دميان ، وقيل أصله دمْي بسكون الميم ، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد .

وقوله تعالى { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغي ، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا في الأمم كالشخص الواحد ، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها ، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول( {[885]} ) ، وقيل { لا تسفكون دماءكم } أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً ، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره ، وهذا تأويل فيه تكلف ، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات .

وقوله تعالى { ثم أقررتم } أي خلفاً بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء ، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله ، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزماً .

وقوله { وأنتم تشهدون }( {[886]} ) قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار ، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم .


[885]:- أي بهذا القول الملفوف أي المجموع والمخلوط من دون بسط ولا تفصيل.
[886]:- تأأكيد للإقرار كما تقول: أقر فلان شاهدا على نفسه، والمعنى: أظهرتم الالتزام بالميثاق، وشهدتم بذلك على أنفسكم قديما وحديثا.