افتتح الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بقوله - تعالى - : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } .
وللعلماء فى مثل هذا التركيب أقوال منها : أن حرف " لا " هنا جئ به ، لقصد المبالغة فى تأكيد القسم ، كما فى قولهم : لا والله .
قال الآلوسى : إدخال " لا " النافية صورة على فعل القسم ، مستفيض فى كلامهم وأشعارهم .
ومنه قول امرئ القيس : لا وأبيك يا بنة العامرى . . يعنى : وأبيك .
ثم قال : وملخص ما ذهب إليه جار الله فى ذلك ، أن " لا " هذه ، إذا وقعت فى خلال الكلام كقوله - تعالى - { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } فهى صلة تزاد لتأكيد القسم ، مثلها فى قوله - تعالى - : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } لتأكيد العلم . .
ومنها : أن " لا " هنا ، جئ بها لنفى ورد كلام المشركين المنكرين ليوم القيامة فكأنه - تعالى - يقول : لا ، ليس الأمر كما زعموا ، ثم قال : أقسم بيوم القيامة الذى يبعث فيه الخلق للجزاء .
قال القرطبى : وذلك كقولهم : لا والله لا أفعل . فلا هنا رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروها . .
ومنها : أن " لا " فى هذا التركيب وأمثاله على حقيقتها للنفى ، والمعنى لا أقسم بيوم القيامة ولا بغيره ، على أن البعث حق ، فإن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى قسم .
وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال : وصيغة لا أقسم ، صيغة قسم ، أدخل حرف النفى على فعل " أقسم " لقصد المبالغة فى تحقيق حرمة المقسم به ، بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ، ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول : لا أقسم به ، أى : ولا أقسم بأعز منه عندى . وذلك كنانية عن تأكيد القسم .
والمراد بالنفس اللوامة : النفس التقية المستقيمة التى تلوم ذاتها على ما فات منها ، فهى - مهما أكثرت من فعل الخير - تتمنى أن لو ازدادت من ذلك ، ومهما قللت من فعل الشر ، تمنت - أيضا - أن لو ازدادت من هذا التقليل .
قال ابن كثير : عن الحسن البصرى فى هذه الآية : إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه ، يقول : ما أردت بكلمتى ؟ ما أردت بأكلتى ؟ . . وإن الفاجر قدما ما يعاتب نفسه .
وفى رواية عن الحسن - أيضا - ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة .
قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيًا ، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي . والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد ، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد ؛ ولهذا قال تعالى : { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة . وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعًا . هكذا{[29537]} حكاه ابن أبي حاتم . وقد حكى ابن جرير ، عن الحسن والأعرج أنهما قرآ : " لأقسم [ بيوم القيامة ]{[29538]} " ، وهذا يوجه قول الحسن ؛ لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة . والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة رحمه الله ، وهو المروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، واختاره ابن جرير .
فأما يوم القيامة فمعروف ، وأما النفس اللوامة ، فقال قرة بن خالد ، عن الحسن البصري في هذه الآية : إن المؤمن - والله - ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قُدُما ما يعاتب نفسه .
وقال جُوَيْبر : بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن{[29539]} مسلم ، عن إسرائيل ، عن سِماك : أنه سأل عِكْرِمة عن قوله : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : يلوم{[29540]} على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا .
ورواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع عن إسرائيل . {[29541]}
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جُبَير في : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : تلوم على الخير والشر .
ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك : فقال : هي النفس اللؤوم . {[29542]}
وقال علي ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : اللوامة : المذمومة .
وقال قتادة : { اللَّوَّامَةِ } الفاجرة .
قال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات .
وقوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : اللّوّامَةِ فقال بعضهم : معناه : ولا أقسم بالنفس التي تلوم على الخير والشرّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : تلوم على الخير والشرّ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سِماك ، عن عكرِمة وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : تلوم على الخير والشرّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي الخير بن تميم ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قلت لابن عباس وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : هي النفس اللّؤوم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها تلوم على ما فات وتندم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : تندم على ما فات وتلوم عليه .
وقال آخرون : بل اللوّامة : الفاجرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ : أي الفاجرة .
وقال آخرون : بل هي المذمومة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ يقول : المذمومة .
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها ، فمتقاربات المعاني ، وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشرّ ، وتندم على ما فات ، والقرّاء كلهم مجمعون على قراءة هذه بفصل «لا » من أقسم .
وقوله تعالى : «ولا أقسم بالنفس اللوامة » القول في «لا » على نحو ما تقدم ، وأما القراءة الثانية فتحتمل أمرين ، إما أن تكون اللام دخلت على فعل الحال ، التقدير لأنا أقسم فلا تلحق لأن النون نون التوكيد إنما تدخل في الأكثر لتفرق بين فعل الحال والفعل المستقبل فهي تلزم المستقبل في الأكثر ، وإما أن يكون الفعل خالصاً للاستقبال فكأن الوجه والأكثر أن تلحق النون إما الخفيفة وإما الثقيلة ، لكن قد ذكر سيبويه أن النون قد تسقط مع إرادة الاستقبال وتغني اللام عنها كما تسقط اللام وتغني النون عنها وذلك في قول الشاعر : [ الكامل ]
وقتيل مرة أثأرن فإنه*** فرغ وإن قتيلهم لم يثأر{[11463]}
المراد لأثارن ، وأما قوله «ولا أقسم بالنفس اللوامة » فقيل «لا » نافية ، وإن الله تعالى أقسم بيوم القيامة ، ونفى أن يقسم بالنفس اللوامة نص عليه الحسن ، وقد ذهب هذا المذهب قوم ممن قرأ «لا أقسم ولأقسم » ، وذلك قلق وهو في القراءة الثانية أمكن وجمهور المتأولين على أن الله تعالى أقسم بالأمرين ، واختلف الناس في { النفس اللوامة } ما معناه ، فقال الحسن هي { اللوامة } لصاحبها في ترك الطاعة ونحوه ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم الله تعالى بها ، وقال ابن عباس : هي الفاجرة الجشعة { اللوامة } لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها فهي على هذا ذميمة وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها والنفس في الآية اسم جنس لنفوس البشر ، وقال ابن جبير ما معناه : إن القسم بها هي اسم الجنس لأنها تلوم على الخير وعلى الشر ، وقيل المراد نفس آدم لأنها لم تزل اللائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة .
قال القاضي أبو محمد : وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء ، فإنها لوامة في الطرفين مرة تلوم على ترك الطاعة ، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت .