ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التي فيها خيرهم في الدنيا والآخرة ، فقالا - كما حكي القرآن عنهما : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .
الضمير في قوله : { مِّنْهُمْ } يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة في قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } .
والرسول : من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه : وتلاوة الشيء : قراءته والمراد بقوله تعالى : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع .
والآيات : جمع آية ، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله ، وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه ، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت ، ويتعبدوا بتلاوتها ، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجهاً مشرقاً من وجوه إعجازها .
والكتاب : القرآن ، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه ، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب .
والحكمة : العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به . ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبيوة المطهرة التي تنتظم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال ، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب ، وتنفتح لهم طرق التفقه في أسرار الدين ومقاصده .
ويزكيهم : أي يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهراً أو باطناً .
يقال : زكاة الله ، أي طهره وأصلحه ، ومنه زكاة المال لتطهره بها ، وأصل الزكاة - بالمد - النماء والزيادة ، يقال . زكا الزرع زكاء وزكوا ، أي نما .
والمعنى : ونسألك يا ربنا أن تبعث فثي الأمة المسلمة ، أو في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك ، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه ، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب ، كما يهديهم إلى الحكمة التي تتمثل في اتباع سنة نبيك - والتي بها يتم التفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده ، والتي يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم .
أي القادر الذي لا يغلب على أمره ، العالم الذي يدبر الأمور على وفق المصلحة ، ومن كان قادراً على كل ما يريد ، عليما بوجوه المصالح ، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال .
وقد جاءت ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة ؛ لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطير من كل ما لا يليق التلبس به في الظاهر ، أو الباطن .
وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول في ذريتهما فيكون أمر الإِيمان قريبا منهم ، فإن نشأته بينهم ، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة ، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه .
ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين ، فأرسل في ذريتهما رسولا منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً .
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه دعوة إبراهيم ، فقال : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات المؤمنين يرين "
يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم - أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، أي من ذرية إبراهيم . وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد - صلوات الله وسلامه عليه{[2821]} - رسولا في الأميين إليهم ، إلى سائر الأعجمين ، من الإنس والجن ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين{[2822]} يَرَيْنَ " {[2823]} .
وكذلك{[2824]} رواه ابن وهب ، والليث ، وكاتبه عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، وتابعه أبو بكر بن أبي مريم ، عن سعيد بن سُويَد ، به .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان بن عامر : سمعت أبا أمامة قال : قلت : يا رسول الله ، ما كان أول بَدْء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " {[2825]} .
والمراد أن أول من نَوّه بذكره وشهره في الناس ، إبراهيم{[2826]} عليه السلام . ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا ، وهو عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا ، وقال : { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] ؛ ولهذا قال في هذا الحديث : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بن مريم " .
وقوله : " ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " قيل : كان منامًا رأته حين حملت به ، وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة . وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها . ولهذا جاء في الصحيحين : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " {[2827]} . وفي صحيح البخاري : " وهم بالشام " {[2828]} .
قال{[2829]} أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . فقيل له : قد استجيبت لك ، وهو كائن في آخر الزمان . وكذا قال السدي وقتادة .
وقوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } يعني : القرآن { وَالْحِكْمَةَ } يعني : السنة ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك وغيرهم . وقيل : الفهم في الدين . ولا منافاة .
{ وَيُزَكِّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني طاعة الله ، والإخلاص .
وقال محمد بن إسحاق { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } قال : يعلمهم الخير فيفعلوه ، والشر فيتقوه ، ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته ، وتجنبوا ما سخط من معصيته .
وقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : العزيز الذي لا يعجزه شيء ، وهو قادر على كل شيء ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، فيضع الأشياء في محالها ، وحكمته وعدله .
{ رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }
وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى » .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي : أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال «نعم ، أنا دَعْوَةُ أبي إبْرَاهِيمَ ، وبُشْرَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم » .
حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا أبو كريب ، عن أبي مريم ، عن سعيد بن سويد ، عن العرباض بن سارية السلمي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّي عِنْدَ اللّهِ فِي أُمّ الكِتابِ خَاتِمُ النّبِيّينَ وَإِنّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِه ، وَسَوْفَ أُنَبّئُكُمْ بِتَأوِيلِ ذَلِكَ : أنا دَعْوَة أبي إبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَه وَرُؤيا أُمي » .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية ، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن معاوية بن صالح ، قالا جميعا ، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الله بن هلال السلمي ، عن عرباض بن سارية السلمي ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن عرباض بن سارية أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكر نحوه .
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } ففعل الله ذلك ، فبعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه ، يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { رَبنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } هو محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمُ } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : قد استجيب ذلك ، وهو في آخر الزمان . ويعني تعالى ذكره بقوله : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُعَلّمهُم الكِتابَ وَالحِكْمَةَ } .
ويعني بالكتاب القرآن . وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن كتابا وما تأويله . وهو قول جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { ويعلمهم الكتاب } : القرآن .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي السنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، { والحكمة } : أي السنة .
وقال بعضهم : الحكمة هي المعرفة بالدين والفقه فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قلت لمالك : ما الحكمة ؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه في الدين ، والاتباع له .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَالحكْمَةَ قال : الحكمة : الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم يعلمهم إياها . قال : والحكمة : العقل في الدين وقرأ : { وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرا كَثِيرا } . وقال لعيسى :
{ وَيُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَإِلانْجِيلَ } . قال : وقرأ ابن زيد : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأ الّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْهَا } . قال : لم ينتفع بالاَيات حيث لم تكن معها حكمة . قال : والحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوّر له به .
والصواب من القول عندنا في الحكمة ، أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها ، وما دلّ عليه ذلك من نظائره . وهو عندي مأخوذ من «الحُكْمِ » الذي بمعنى الفصل بين الحقّ والباطل بمنزلة «الجِلسة والقِعدة » من «الجلوس والقعود » ، يقال منه : إن فلانا لحكيم بيّنُ الحكمة ، يعني به أنه لبيّن الإصابة في القول والفعل . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم ، وفصل قضائك ، وأحكامك التي تعلمه إياها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُزَكّيهِمْ } .
قد دللنا فيما مضى قَبْلُ على أن معنى التزكية : التطهير ، وأن معنى الزكاة : النماء والزيادة . فمعنى قوله : { ويُزكيهِمْ } في هذا الموضع : ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان وينميهم ويكثرهم بطاعة الله . كما :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُزَكّيهِمْ } قال : يعني بالزكاة ، طاعة الله والإخلاص .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : { وَيُزَكّيهِمْ } قال : يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : إنك يا ربّ أنت العزيز القويّ الذي لا يعجزه شيء أراده ، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك . والحكيم : الذي لا يدخل تدبيره خَلَلٌ ولا زَلَلٌ ، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا ، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك .
{ ربنا وابعث فيهم } في الأمة المسلمة { رسولا منهم } ولم يبعث من ذريتهما غير محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام " أنا دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي " . { يتلو عليهم آياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل التوحيد والنبوة . { ويعلمهم الكتاب } القرآن { والحكمة } ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام . { ويزكيهم } عن الشرك والمعاصي { إنك أنت العزيز } الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد { الحكيم } المحكم له .
كرر النداء لأنه عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصاً على تمام هديهم .
وإنما قال : { فيهم } ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولاً إليهم فقط ، ولذلك حذف متعلق { رسولاً } ليعم ، فالنداء في قوله : { ربنا وابعث } اعتراض بين جمل الدعوات المتعاطفة ، ومظهر هذه الدعوة هو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما ، وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل ، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسماعيل ، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل .
وجاء في التوراة ( في الإصحاح 17 من التكوين ) « ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم » وقال له : أنا الله القدير سرْ أمامي وكن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيراً جداً وفي فقرة 20 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً » . وذكر عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجوداً بها سنة 736 ست وثلاثين وسبعمائة في كتاب له سماه « الحسام المحدود في الرد على اليهود » : أن كلمة كثيراً جداً أصلها في النص العبراني « مادا مادا » وأنها رمز في التوراة لاسم محمد بحساب الجمَّل لأن عدد حروف « مادا مادا » بحساب الجُمَّل عند اليهود تجمع عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد اهـ وتبعه على هذا البقاعي في « نظم الدرر » .
ومعنى { يتلو عليهم آياتك } يقرؤها عليهم قراءة تذكير ، وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع . فالآيات جمع آية وهي الجملة من جمل القرآن ، سميت آية لدلالتها على صدق الرسول بمجموع ما فيها من دلالة صدور مثلها من أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وما نُسجت عليه من نظم أعجز الناس عن الإتيان بمثله ، ولما اشتملت عليه من الدلالة القاطعة على توحيد الله وكمال صفاته دلالة لم تترك مسلكاً للضلال في عقائد الأمة بحيث أمنت هذه الأمة من الإشراك ، قال النبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع " إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا " .
وجيء بالمضارع في قوله : { يتلو } للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر تلاوته .
والحكمة العِلم بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده ، وعن مالك : الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك ، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلاهما ناظر إلى أن عطف الحكمة على الكتاب يقتضي شيئاً من المغايرة بزيادة معنى وسيجيء تفصيل معنى الحكمة عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } في هذه السورة ( 269 ) .
والتزكية التطهير من النقائص وأكبر النقائص الشرك بالله ، وفي هذا تعريض بالذين أعرضوا عن متابعة القرآن وأبوا إلا البقاء على الشرك .
وقد جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ثم يكون تعليم معانيه قال تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } [ القيامة : 18 ، 19 ] العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن .
وقوله : { إنك أنت العزيز الحكيم } تذييل لتقريب الإجابة أي لأنك لا يغلبك أمر عظيم ولا يعزب عن علمك وحكمتك شيء . والحكيم بمعنى المحكم هو فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } [ البقرة : 10 ] وقوله : { قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إِنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ربنا وابعث فيهم} يعني: في ذريتنا.
{رسولا منهم}: محمدا صلى الله عليه وسلم.
{يتلوا عليهم آياتك}: يقرأ عليهم آيات القرآن.
{ويعلمهم الكتاب}: يعلمهم ما يتلى عليهم من القرآن.
{والحكمة}: الموعظة التي في القرآن من الحلال والحرام.
{ويزكيهم}: ويطهرهم من الشرك والكفر.
{إنك أنت العزيز الحكيم}: فاستجاب الله له في سورة الجمعة، فقال: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته} (الجمعة: 2) إلى آخر الآية...
ابن وهب، قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له...
قال مالك: إنما الحكمة مسحة ملك على قلب العبد. وقال أيضا: الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد. وقال أيضا: يقع لقلبي أن الحكمة، الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله. وقال أيضا: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له...
... ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله، فقال في كتابه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمُ إِنَّكَ أَنتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ}
وقال جل ثناؤه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُم ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
وقال: {لَقَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنَ اَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}
وقال جل ثناؤه: {هُوَ اَلذِى بَعَثَ فِي اِلاُمِّيِّنَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}
وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ اَلْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} وقال: {وَأَنزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}
وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ ءايَاتِ اِللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}.
فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال، والله أعلم. لأن القرآن ذُكر وأُتْبِعَتْهُ الحكمة، وذَكَرَ الله مَنَّهُ على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ ـ والله أعلم ـ أن يقال الحكمة هاهنا إلا سُنة رسول الله. وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فَرْضٌ إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله لما وصفنا، من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به. وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد، دليلا على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله. (الرسالة: 76-79. ون أحكام الشافعي: 1/28-29.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى».
حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال «نعم، أنا دَعْوَةُ أبي إبْرَاهِيمَ، وبُشْرَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم».
حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا أبو كريب، عن أبي مريم، عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية السلمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّي عِنْدَ اللّهِ فِي أُمّ الكِتابِ خَاتِمُ النّبِيّينَ وَإِنّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِه، وَسَوْفَ أُنَبّئُكُمْ بِتَأوِيلِ ذَلِكَ: أنا دَعْوَة أبي إبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَه وَرُؤيا أُمي».
{وَيُعَلّمهُم الكِتابَ وَالحِكْمَةَ}: ويعني بالكتاب: القرآن. وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن كتابا وما تأويله...
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي السنة...
وقال بعضهم: الحكمة: هي المعرفة بالدين والفقه فيه والاتباع له... [وهي] الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم يعلمهم إياها. [وهي] العقل في الدين...وقرأ ابن زيد: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأ الّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْهَا}. قال: لم ينتفع بالآيات حيث لم تكن معها حكمة. قال: والحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوّر له به.
والصواب من القول عندنا في الحكمة: أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها، وما دلّ عليه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من «الحُكْمِ» الذي بمعنى الفصل بين الحقّ والباطل بمنزلة «الجِلسة والقِعدة» من «الجلوس والقعود»، يقال منه: إن فلانا لحكيم بيّنُ الحكمة، يعني به أنه لبيّن الإصابة في القول والفعل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك، وأحكامك التي تعلمه إياها.
{وَيُزَكّيهِمْ}: قد دللنا فيما مضى قَبْلُ على أن معنى التزكية: التطهير، وأن معنى الزكاة: النماء والزيادة. فمعنى قوله: {ويُزكيهِمْ} في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان وينميهم ويكثرهم بطاعة الله.
{إِنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}: إنك يا ربّ أنت العزيز القويّ الذي لا يعجزه شيء أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك. والحكيم: الذي لا يدخل تدبيره خَلَلٌ ولا زَلَلٌ، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
و {الحكمة} قيل: الفقه؛ يقول: {ويعلمهم الكتاب} وما فيه من الفقه. وقيل: {والحكمة}: ما فيه من الأحكام من الحلال والحرام. وقيل: {والحكمة} هي السنة ههنا. وقيل: {والحكمة}: هي الإصابة. وبعض هذا قريب من بعض، وبالله التوفيق...
{ويزكيهم} قال ابن عباس رضي الله عنه: يأخذ زكاة أموالهم؛ فذلك يزكيهم، كقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم} [التوبة: 103]. وقيل: يزكيهم إلى ما به زكاة أنفسهم. وقيل: يزكيهم بعمل الصالح...
{إنك أنت العزيز الحكيم} أي لا شيء يعجزه. والعزيز بذاته. وكل شيء دونه غير عزيز ذليل. وقيل: العزيز: المنيع. وقيل: العزيز: المنتقم من أعدائه، والحكيم: هو المصيب في فعله، والحكيم في أمره ونهيه، والحكيم: هو الذي أحكم كل شيء وجعله دليلا على وحدانيته...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
[الحكمة عند] ابن قتيبة: هي العلم والعمل ولا يسمّى الرّجل حكيماً حتّى يجمعهما. وعن أبي بكر محمّد بن الحسن البريدي: كلّ كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنّ من الشّعر لحكمة". وعن أبي جعفر محمّد بن يعقوب: الحكمة كلّ صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً أو حالاً صحيحاً. يحيى بن معاذ: الحكمة جند من جنود الله يرسلها إلى قلوب العارفين حتّى يروّح عنها وهج الدّنيا، وقيل: هي وضع الأشياء مواضعها، وقيل: الحكمة والحكم كلّما وجب عليك فعله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} فيه تأويلان:
أحدهما: معناه يطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان.
والثاني: يزكيهم بدينه إذا اتبعوه فيكونون به عند الله أزكياء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن الواجبات لمّا كانت من قِبَلِ الرسل دون مجرد المعقول، سأل ألا يتركهم سُدًى، وألا يخليهم عن رسول وشرع. وطلب في ذلك الموقف أن يكون الرسول "منهم "ليكونوا أَسْكَنَ إليه وأَسْهَلَ عليهم، ويصحُّ أن يكون معناه أنه لما عَرَّفَهُ -سبحانه- حالَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم سأل إنجاز ما وعده على الوجه الذي به طلبه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
العزيز: هو الذي لا نظير له، وهو ما تشتد الحاجة إليه ويصعب نيله والوصول إليه. والحكيم: يدل على العلم مضافا إلى أشرف المعلومات. [روضة الطالبين وعمدة السالكين ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي رقم 2 ص 65]...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قال الخطابي: العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه: أحدها: بمعنى الغلبة، والثاني: بمعنى الشدة والقوة،والثالث: أن يكون بمعنى: نفاسة القدر...
{ربنا وابعث فيهم رسولا منهم}...اعلم أنه لا شبهة في أن قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولا} يريد من أراد بقوله: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعطف عليه بقوله تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين.
(أحدهما): أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام.
(والثاني): أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه.
(أحدها): ليكون محلهم ورتبتهم في العز والدين أعظم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معا من ذريته، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها.
(وثانيها): أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته.
(وثالثها): أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم...
واعلم أنه تعالى لما طلب بعثة رسول منهم إليهم، ذكر لذلك الرسول صفات.
(أولها): قوله: {يتلو عليهم آياتك} وفيه وجهان
(الأول): أنها الفرقان الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه.
(الثاني): يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إياها عليهم: أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها.
(وثانيها): قوله: {ويعلمهم الكتاب} والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه، وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه:
منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف.
ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة.
ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة.
فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام، فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونورا لما فيه من المعاني والحكم والأسرار، فلما ذكر الله تعالى أولا أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال: {ويعلمهم الكتاب}.
[و] (الصفة الثالثة): من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (والحكمة) أي ويعلمهم الحكمة.
واعلم أن الحكمة: قيل أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل، ووضع كل شيء موضعه...
[و] (الصفة الرابعة): من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: قوله: {ويزكيهم}
واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين.
(والثاني): أن يعرف الخير لأجل العمل به، فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهرا عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكيا عنها، فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص، فقال: {ويزكيهم}...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه.
{ويزكيهم} أي يطهرهم من وضر الشرك، عن ابن جريج وغيره. والزكاة: التطهير...
وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم، والله تعالى أعلم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
البعث: الإرسال، والإحياء، والهبوب من النوم...
{ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم}: لما دعا ربه بالأمن لمكة، وبالرزق لأهلها، وبأن يجعل من ذريته أمّة مسلمة، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية...
{يتلوا عليهم آياتك}... قيل: خبر من مضى، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة...
{ويعلمهم الكتاب}: هو القرآن، والمعنى: أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه. وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله...
وأسند التعليم للرسول، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه، ويتسبب في ذلك...
والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم، ولا يحصل به العلم، ولذلك يقبل النقيضين، تقول: علمته فتعلم، وعلمته فما تعلم، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم...
{يتلو عليهم آياتك}، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته...
{ويعلمهم الكتاب}، أي يبين لهم وجوه أحكامه: حلاله وحرامه، ومفروضه، ومسنونه، ومواعظه، وأمثاله، وترغيبه، وترهيبه، والحشر، والنشر، والعقاب، والثواب، والجنة والنار...
{ويزكيهم} باطناً من أرجاس الشرك وأنجاس الشك، وظاهراً بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الإنعام...
ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية... وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة، وهي الغلبة أو القوّة، أو عدم النظير، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب: إن قيل ما وجه الترتيب في الآية؟ قيل: أما الآيات فهي... الدالة على معجز النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقا بالقرآن. وأما الترتيب فلأن أول منزلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ادعاء النبوة، الإتيان بالآيات الدالة على نبوته، ثم بعده تعليمهم الكتاب، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة، وهي أشرف منزلة العلم، ولهذا قال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} ثم بالتدرج في الحكمة يصير الإنسان مزكى أي مطهرا مستصلحا لمجاورة الله عز وجل انتهى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويعلمهم الكتاب والحكمة} قال الأستاذ الإمام: فسروا الكتاب بالقرآن والحكمة بالسنة، والثاني غير مسلم على عمومه.
أما الأول فله وجه، وعليه يكون المراد بالآيات فيما سبق دلائل العقائد وبراهينها كما تقدم فيما سبق دون الوحي وإلا كان مكررا. وفيه وجه ثان وهو أن المراد بالكتاب مصدر كتب يقال: كتب كتابا وكتابة. وإنما الدعاء لأمة أمية لا بد في إصلاحها وتهذيبها من تعليمها الكتابة. وقد كانت الأمم المجاورة لها من أهل الكتاب، فلا يتيسر لها اللحاق بها أو سبقها، حتى تكون من الكاتبين مثلها.
وأما الحكمة فهي في كل شيء: معرفةُ سره وفائدته. والمراد بها: أسرار الأحكام الدينية والشرائع ومقاصدها. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بسيرته في المسلمين، وما فيها من الفقه في الدين، فإن أرادوا من السنة هذا المعنى في تفسير الحكمة فهو مسلم، وهو الذي كان يفهم من اسمها في الصدر الأول وإن أرادوا بالسنة ما يفسرها به أهل الأصول والمحدثون فلا تصح على إطلاقها فالحكمة مأخوذة من الحكمة – بالتحريك – وهي ما أحاط بحنكي الفرس من اللجام وفيها العذاران، وفي ذلك معنى ما يضبط به الشيء، ومن ذلك إحكام الأمر وإتقانه. وما كل من يروي الأحاديث يحقق له هذا المعنى، ولكن الذي يتفقه في الدين ويفهم أسراره ومقاصده يصح أن يقال: إنه قد أوتي الحكمة التي قال الله فيها {2: 269 ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} ولن يكون أحد داخلا في دعوة إبراهيم حتى يقبل تعليم الحكمة من هذا النبي الكريم.
[و لقد] علم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفي في إصلاح الأمة وإسعادها، بل لا بد أن يقرن التعليم بالتربية على الفضائل والحمل على الأعمال الصالحة بحسن الأسوة والسياسة فقالا {ويزكيهم} أي يطهر نفوسهم من الأخلاق الذميمة، وينزع منها تلك العادات الرديئة، ويعودها الأعمال الحسنة التي تطبع في النفوس ملكات الخير، ويبغض إليها الأعمال القبيحة التي تغريها بالشر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الدعوة المستجابة تستجاب، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته. غير أن الناس يستعجلون! وغير الواصلين يملون ويقنطون!... وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف. إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين، وهما أصل سادني البيت من قريش.. إنهما يقولان باللسان الصريح: (ربنا واجعلنا مسلمين لك).. (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) كما يقولان باللسان الصريح: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) وهما بهذا وذاك [يقران] أن وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم، ووراثتها للبيت الحرام سواء. وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه، وهي أولى به من المشركين. وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين!...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور:
-الجوّ الروحي في بناء المؤسسات:
الجوّ الروحي الذي ينبغي للعاملين الإسلاميين أن يعيشوه، وهم يعملون في بناء المؤسسات، فلا تشغلهم التزامات العمل وقضاياه المادية التي تفرضها طبيعة هذا النوع من العمل، عن البقاء في الخطّ الروحي الواعي الذي ينفتح فيه الإنسان على اللّه الذي كان العمل من أجله، ليبقى للعمل جوّ العبادة والواجب والمسؤولية، فلا يتحوّل إلى غايةٍ بعد أن كان وسيلة، كما نشاهده في كثير من المؤسسات الدينية التي انطلق أصحابها من موقع الفكرة الرسالية في البداية، حتّى إذا اندمجوا فيها وعاشوا في الأجواء المادية التي تفرضها العلاقات والالتزامات، تحوّلوا إلى أشخاصٍ جامدين لا يملكون أيّة حيويّة روحيّة في هذا المجال، بل ربما تبدأ العقلية الفردية الضيّقة في التحكّم بطبيعة المؤسسات وخطواتها العملية، فتتحوّل إلى شيء يخصّ الشخص أو الجهة، في ما يفرضه المزاج أو تدعو إليه المصلحة الخاصة، وقد يحدث في هذا الجوّ أن يبدأ الصراع بين مؤسسة وأخرى من خلال تعارض المصالح الفردية للقائمين عليها، أو لتصادم الخطوط التي يسير عليها هذا أو ذاك، وبذلك تصبح المؤسسات الدينية خطراً على العمل الديني بما تثيره من أجواء الحقد والبغضاء والتنافس الفردي على الأطماع والامتيازات، وبما تتحرّك فيه من أساليب وشعارات تستخدم القيم الدينية للمحافظة على أطماع الدنيا وشهواتها، وربما كان السرّ في ذلك هو ابتعاد الأجواء عن اللّه واستغراقها في ظلمات الذات، خلافاً لما نستوحيه من أجواء إبراهيم وإسماعيل في روحيّتهما الفيّاضة الدافقة في بناء البيت الحرام...
وقد نستوحي من ذلك أن يعيش العاملون باللّه الحُلُم الكبير في ما يحلمون به لمستقبل أولادهم، وذلك بالتركيز على أن يكونوا مؤمنين باللّه، عاملين في سبيل إيجاد القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم والأمّة المسلمة، فتتحول التربية، في هذا الجوّ، إلى التخطيط العملي، الأمر الذي يجعل ارتباط الإنسان بأولاده ارتباطاً رسالياً يتحرّك في نطاق الحركة الرسالية، لا في موقع العاطفة الذاتية التي تحلم وتفكر لهم بالنجاح المادي في الدنيا بعيداً عن النجاح الروحي في الدنيا والآخرة، وهذا ما نلمح مظاهره وخطواته في سلوك بعض الدعاة إلى اللّه الذين يفصلون بين أولادهم وبين الآخرين، فيعملون على أن يضمنوا لأبنائهم المزيد من الأمن والبعد عن الأخطار التي يفرضها العمل على السائرين في الطريق، ولكنهم لا يعيشون هذا الاهتمام بالآخرين من النّاس وأولادهم، فيدفعونهم إلى اقتحام الخطر في سبيل اللّه ويحشدون في سبيل ذلك كلّ ما يملكونه من أساليب الإثارة والانفعال... إنها الازدواجية في الفكر والعاطفة والعمل، التي تجعل للعاملين شخصيتين مختلفتين تتحرّك إحداهما في النطاق الذاتي بعيداً عن الرسالة، وتنطلق الأخرى في نطاق الآخرين لتثير كلّ الأجواء من خلال شعارات الرسالة، خلافاً لما توحيه الآية من وحدة الشخصية التي يحلم بها إبراهيم وإسماعيل لأولادهما بما يحلمان به للذات ولأولاد الآخرين، لأنَّ المسؤولية تتحرّك في داخلهم من موقعٍ واحد نحو هدف واحد...
ويستوحي المتأمّل من هذه الآيات، أن يفكر المسؤولون عن العمل الإسلامي في مسؤوليتهم الرسالية في تهيئة الأجواء الإسلامية للنّاس من خلال وجود مسؤولين دينيين في حياة المجتمع، باعتبارهم الذين يملكون قدرة قيادة النّاس في خطوات الفكرة على أساس تفصيلي واضح، فلا يغرقون في الشموليات التي تُفقدهم الرؤية الواضحة للطريق، ولا يضيعون في الطريق بين العلامات المتنوّعة أو الرمال المتحركة. إنَّ هذا الدعاء الأخير الذي يطلب من اللّه إرسال الرسول، يوحي لنا بالحاجة إلى الرسالة والرسول في كلّ عمل تغييري يستهدف تغيير المجتمع من الجذور، فلا قيمة للقيادة بدون رسالة، ولا قيمة للرسالة بدون قيادة تدل النّاس على مواضع الطريق... وقد يجدر بنا أن نشير، في نهاية الحديث، إلى الحديث المأثور عن النبيّ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلّق على هذه الآية: «أنا دعوة أبي إبراهيم»...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
2- «التعليم» مقدم أو «التربية»؟ ـ في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قُدمت «التربية» على «التعليم» (البقرة، 151 ـ آل عمران، 164 ـ الجمعة، 2). وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا). ونعلم أن التربية لا تتم إلاّ بالتعليم. لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما. وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنها الهدف، لأن الهدف الأصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.
- النّبي من النّاس ـ تعبير «منهم» في الآية {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} يشير إلى أن قادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بنفس صفات البشر الغريزية، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية. ومن الطبيعي أنهم ـ لو كانوا من غير البشر ـ ما استطاعوا إدراك حاجات النّاس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة وأسوة لهم...