التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

وبعد هذا البيان المشتمل على سوء عاقبة هذه الأمم التى كذبت رسلها . . . أتبع ذلك - سبحانه - ببيان مصير كثير من الأمم الظالمة فقال : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } .

وكلمة " كأين " مركبة من كاف التشبيه ، ومن أى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير ، ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها . ومميزها غالبا ما يجر بمن كما فى الآية وفى غيرها . قال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ . . } { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } قال الآلوسى : وقوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } منصوب بمضمر يفسره قوله - تعالى - : { أَهْلَكْنَاهَا } أى : فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها . . . أو مرفوع على الابتداء ، وجملة { أَهْلَكْنَاهَا } خبره .

أى : فكثير من القرى أهلكناها . . . وقوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من مفعول أهلكنا . . .

ولفظ { خَاوِيَةٌ } بمعنى ساقطة أو خالية . يقال خوى البيت يخوى إذا سقط أو خلا ممن يسكنه .

والعروش : جمع عرش وهو سقف البيت ، ويسمى العريش : وكل ما يُهيأ ليُسْتَظَلَ به فهو عريش .

وبئر معطلة أى : مهجورة لهلاك أهلها ، يقال : بأر فلان الأرض إذا حفرها ليستخرج منها الماء .

والمَشِيد : المجصص بالشِّيد وهو الجِصّ . يقال : شاد فلان بيته يَشِيده ، إذا طلاه بالشِّيد .

والمعنى : وكثير من القوى أهلكناها بسبب ظلمهم وكفرهم ، فإذا ما نظرت إليها وجدتها خالية من أهلها ، وقد سقطت سقوفها على جدرانها . وكثير من الآبار التى كانت تتفجر بالماء عطلناها وصارت مهجورة ، وكثير - أيضا - من القصور المشدة الفخمة أخليناها من أهلها . وذلك لأنهم كذبوا رسلنا ، وجحدوا نعمنا ، فدمرناهم تدميرا . وجعلنا مساكنهم من بعدهم اثرا بعد عين .

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على أشد ألوان الوعيد والتهديد لكفار قريش الذين كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضوا عن دعوته .

وشبيه بهذه الاية قوله - تعالى - : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

ثم قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ{[20320]} مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : كم من قرية أهلكتها { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } ] {[20321]} أي : مكذبة لرسولها ، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } قال الضحاك : سقوفها ، أي : قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها .

{ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } أي : لا يستقى منها ، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها .

{ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } قال عكرمة : يعني المُبَيّض بالجص .

وروي عن علي بن أبي طالب ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي المَلِيح ، والضحاك ، نحو ذلك .

وقال آخرون : هو المُنيف المرتفع .

وقال آخرون : الشديد المنيع الحصين .

وكل هذه الأقوال متقاربة ، ولا منافاة بينها ، فإنه لم يَحْمِ أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ، ولا إحكامه ولا حصانته ، عن حلول بأس الله بهم ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] .


[20320]:- في ت ، ف : "وكأين".
[20321]:- زيادة من ف ، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مّعَطّلَةٍ وَقَصْرٍ مّشِيدٍ } .

يقول تعالى ذكره : وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون يقول : وهم يعبدون غير من ينبغي أن يعبد ، ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه . وقوله : فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يقول : فباد أهلها وخلت ، وخوت من سكانها ، فخربت وتداعت ، وتساقطت على عروشها يعني على بنائها وسقوفها . كما :

حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قال : خَواؤها : خرابها ، وعروشها : سقوفها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : خاوِيَةٌ قال : خربة ليس فيها أحد .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة . مثله .

وقوله : وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ يقول تعالى : فكأين من قرية أهلكناها ، ومن بئر عطلناها ، بإفناء أهلها وهلاك وارديها ، فاندفنت وتعطلت ، فلا واردة لها ولا شاربة منها . وَمِنْ قَصْرٍ مَشِيدٍ رفيع بالصخور والجصّ ، قد خلا من سكانه ، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم ، فبادوا وبقي قصورهم المشيدة خالية منهم . والبئر والقصر مخفوضان بالعطف على «القرية » . وكان بعض نحويّي الكوفة يقول : هما معطوفان على «العروش » بالعطف عليها خفضا ، وإن لم يحسن فيهما ، على أن العروش أعالي البيوت والبئر في الأرض ، وكذلك القصر لأن القرية لم تخو على القصر ، ولكنه أتبع بعضه بعضا كما قال : وَحُورٌ عِينٌ كأمْثالِ اللّؤْلُؤِ فمعنى الكلام على ما قال هذا الذي ذكرنا قوله في ذلك : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة ، فهي خاوية على عروشها ، ولها بئر معطلة وقصر مشيد ولكن لما لم يكن مع البئر رافع ولا عامل فيها ، أتبعها في الإعراب «العروش » ، والمعنى ما وصفتُ .

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخُراسانيّ ، عن ابن عباس : وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال : التي قد تُرِكت . وقال غيره : لا أهل لها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال : عطلها أهلها ، تركوها .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال : لا أهل لها .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فقال بعضهم : معناه : وقصر مُجَصّص . ذكر من قال ذلك :

حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن هلال بن خَبّاب عن عكرِمة ، في قوله : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : مجصّص .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن هلال بن خباب ، عن عكرِمة ، مثله .

حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثني غالب بن فائد ، قال : حدثنا سفيان ، عن هلال بن خباب عن عكرِمة ، مثله .

حدثني الحسين بن محمد العنقزي ، قال : ثني أبي ، عن أسباط ، عن السديّ ، عن عكرمة ، في قوله : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : مجصص .

حدثني مطر بن محمد ، قال : حدثنا كثير بن هشام ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، قال : كنت أمشي مع عكرِمة ، فرأى حائط آجرّ مُصَهْرج ، فوضع يده عليه وقال : هذا المشيد الذي قال الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد بن العوامّ ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : المجصص . قال عكرِمة : والجصّ بالمدينة يسمى الشيّد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : بالقِصّة أو الفضة .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : بالقصّة يعني بالجصّ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : مجصص .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوريّ ، عن هلال بن خباب ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : مُجَصّص . هكذا هو في كتابي عن سعيد بن جُبير .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقصر رفيع طويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال : كان أهله شيّدوه وحصّنوه ، فهلكوا وتركوه .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عُبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَقَصْرٍ مَشِيدٍ يقول : طويل .

وأولى القولين في ذلك بالصواب : قول من قال : عني بالمشيد المجصّص ، وذلك أن الشيّد في كلام العرب هو الجصّ بعينه ومنه قول الراجز :

*** كحَبّةِ المَاءِ بينَ الطيّ والشّيدِ ***

فالمشيد : إنما هو مفعول من الشّيد ومنه قول امرىء القيس :

وتَيْماءَ لَمْ يَتْرُكْ بِها جِذْعَ نَخْلَةٍ *** وَلا أُطُما إلاّ مَشِيدا بِجَنْدَلِ

يعني بذلك : إلا بالبناء بالشيد والجندل . وقد يجوز أن يكون معنيّا بالمشيد : المرفوع بناؤه بالشّيدِ ، فيكون الذين قالوا : عني بالمشيد الطويل نَحَوْا بذلك إلى هذا التأويل ومنه قول عديّ بن زيد :

شادَهُ مَرْمَرا وَجَلّلَهُ كِلْ *** سا فللطّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ

وقد تأوّله بعض أهل العلم بلغات العرب بمعنى المزين بالشيد من شدته أشيده : إذا زيّنته به ، وذلك شبيه بمعنى من قال مُجَصّص .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

{ فكأين من قرية أهلكناها } بإهلاك أهلها ، وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم . { وهي ظالمة } أي أهلها . { فهي خاوية على عروشها } ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم انهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقا ب { خاوية } ، ويجوز أن يكون خبر بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها والجملة معطوفة على { أهلكناها } لا على { وهي ظالمة } فإنها حال والإهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره { أهلكناها } وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفع . { وبئر معطلة } عطف على { قرية } أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها ، وقرئ بالتخفيف ممن أعطله بمعنى عطله . { وقصر مشيد } مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه ، وذلك يقوي أن معنى { خاوية على عروشها } خالية مع بقاء عروشها وقيل المراد ب { بئر } بئر في سفح جبل بحضرموت وبقصر قصر مشرف على قلته كان لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

{ كأين } هي كاف التشبيه دخلت على «أي » قال سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل عمران في قوله { وكأين من نبي قاتل }{[8399]} [ آل عمران : 146 ] ، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاماً ، وحكى الفراء «كأين ما لك » ، وقرأت فرقة «أهلكناها » ، وقرأت فرقة «أهلكتها » ، بالإفراد والمراد أهل القرية و { ظالمة } معناه بالكفر ، و { خاوية } ، معناه خالية ومنه خوى النجم اذا خلا من النور ، ونحوه ساقطة { على عروشها } ، والعرش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي على العروش ، { وبئر } ، قيل هو معطوف على «العروش » وقيل على «القرية » وهو أصوب{[8400]} ، وقرأت فرقة «وبيئر » بهمزة وسهلها الجمهور ، وقرأت فرقة «مَعْطَلة » بفتح الميم وسكون العين وفتح الطاء وتخفيفها ، والجمهور على «مُعَطّلة » بضم الميم وفتح العين وشد الطاء ، و «المشيد » المبني بالشيد وهو الجص ، وقيل «المشيد » المعلى بالآجر ونحو : فمن الشيد قول عدي بن زيد :

شاده مرمراً وجلله كلساً . . . فللطير في ذراه وكور{[8401]}

شاد : بنى بالشيد ، والأظهر في البيت أنه أراد علاه بالمرمر ، وقالت فرقة في هذه الآية إن { مشيد } معناه معلى محصناً ، وجملة معنى الآية تقتضي أنه كان كذلك قبل خرابه .


[8399]:من الآية (146) من سورة (آل عمران)، راجع جـ 3 ص 352 وما بعدها. وكثير من اللغويين يرون أن (كأين) غير مركبة، بل هي بسيطة وهي كلمة وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو: (كم)،= ولا دليل على أنها مركبة، والدليل على أنها بسيطة إثبات نونها في الخط لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها، وأن العرب يتلاعبون بها، إذ فيها خمس لغات، وأبو حيان الأندلسي يميل إلى هذا الرأي.
[8400]:قال الفراء في (معاني القرآن): "البئر والقصر يخفضان على العطف على "العروش"، وإذا نظرت في معناها وجدتها ليست تحسن فيها (على)؛ لأن العروش أعالي البيوت، والبئر في الأرض وكذلك القصر، لأن القرية لم تخو على القصر، ولكنه أتبع بعضه بعضا"، وهذا يوضح سب الضعف في العطف على "العروش"، ولهذا قال أبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط): "وجعل {وبئر معطلة وقصر مشيد} معطوفين على [عروشها] جهل بالفصاحة". ومع هذا فقد عاد الفراء في نهاية كلامه إلى تفضيل العطف على العروش قائلا: "إنه أحب إلي".
[8401]:البيت من قصيدة نظمها عدي بن زيد وهو في السجن، وتحدث فيها عن صروف الدهر وعبر الأيام، وأورد أسماء الملوك والأباطرة والأكاسرة الذين أدركوا غاية الثراء والأبهة والسلطة، ثم تركوا كل ذلك مخلفين قصورهم المرمرية كشاهد على هزيمة الإنسان أمام الزمن، وهو في هذا البيت يصل الحديث عن قصر يسمى (الحضر) ناه الضيزن ابن معاوية القضاعي فيقول: إنه قد شيد هذا القصر بالمرمر، وجلله بالكلس فارتفع وشمخ حتى أوت الطيور إلى أعاليه تبني أعشاشها. والكلس هو الجير، والذرى: جمع ذروة وهي أعلى الشيء، والذرى ـ بالفتح ـ الكن وما سترك وكنك من حائط أو شجر. والبيت في اللسان شاهدا على أن المشيد هو المبني بالشيد. وفي اللسان أيضا مناقشة طويلة بين اللغويين في الفرق بين (مشيد) و (مشيدة). هذا والشيد: كل شيء طليت به الحائط من بلاط أو جص.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

تفرع ذكر جملة { كأين من قرية } على جملة { فكيف كان نكير } [ الحج : 44 ] فعطفت عليها بفاء التفريع ، والتعقيب في الذكر لا في الوجود ، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره ، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع ، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العَدد شُمولاً للأقوام الذين ذُكروا من قبل في قوله : { فقد كذبت قبلهم قوم نوح } [ الحج : 42 ] إلى آخره فيكون لتلك الجملةِ بمنزلة التذييل .

و { كأيّن } اسم دال على الإخبار عن عدد كثير .

وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر . والتقدير : كثير من القرى أهلكناها ، وجملة { أهلكناها } الخبر .

ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره { أهلكناها } والتقدير : أهلكنا كثيراً من القرى أهلكناها ، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها ( كأيّن ) بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية ، وعلى الوجه الأول فجملة { أهلكناها } في محل جر صفة ل { قرية } . وجملة { فهي خاوية } معطوفة على جملة { أهلكناها ، } وقد تقدم نظيره في قوله { وكأين من نبي } في [ سورة آل عمران : 146 ] .

وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون ، منهم من ذُكر في القرآن مثل عاد وثمود . ومنهم من لم يذكر مثل طَسم وجَديس وآثارُهم باقية في اليمامة .

ومعنى { خاوية على عروشها } أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار . وجملة { على عروشها } خبر ثان عن ضمير { فهي } والمعنى : ساقطة على عروشها ، أي ساقطة جدرانها فوق سُقفها .

والعروش : جمع عَرش ، وهو السَقْف ، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } في [ سورة البقرة : 259 ] .

والمعطلة : التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع ، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا . وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئاراً في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بِئراً واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه السلام .

والقصر : المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقاً .

والمَشِيد : المبنيّ بالشّيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجصّ : وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رُصّ به .

والقصور المُشيّدة : وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرةٌ مثل : قصر غُمدان في اليمن ، وقصور ثمود في الحِجْر ، وقصور الفراعنة في صعيد مصر ، وفي « تفسير القرطبي » يقال : « إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان . ويقال : إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء . وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول عليه السلام . وكان صالح معهم ، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حَنظلة بن صفوان رسولاً فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشاً » . يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة ( كأيّنْ ) تنافي إرادة قرية معيّنة .

وقرأ الجمهور { أهلكناها } بنون العظمة : وقرأه أبو عَمرو ويعقوب { أهلكتُها } بتاء المتكلم .