التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

وقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ } معطوف على جملة { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } والضمير " هم " يعود على الذين يقاتلون المسلمين وهم من سبق الحديث عنهم .

والمراد من { والفتنة } الشرك وما يتبعه من أذى المشركين للمسلمين واضطهادهم وتعذيبهم .

قال الآلوسي : ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإِسلام أو السيف . لقوله - سبحانه - : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } وفي الصحيحين عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله " .

والدين في اللغة : العادة والطاعة ثم استعمل فيما يتعبد به الله - تعالى - سواء أكان ما تعبد الصلاح في الحال والفلاح في المآل .

والمعنى : قالتوا أولئك المشركين حتى تزيلوا الشرك ، وحتى تكسروا شوكتهم ولا يستطيعوا أن يفتنوا طائفة من أهل الدين الحق ، وحتى يكون الدين الظاهر في الأرض هو الدين الذي شرعه الله - تعالى - على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .

وقد تحقق ذلك بالقتال الذي داربين المسلمين وبين المشركين في أكثر من عشرين غزوة قادها النبي صلى الله عليه وسلم وفي أكثر من أربعين سرية بعث فيها أصحابه ، وكانت ثمار هذه المعارك أن انتصر الحق وزهق الباطل ، وقبل أن يلتحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب هو الدين الإِسلامي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } والعدوان في أصل اللغة : الاعتداء والظلم الذي هو من الأفعال المحرمة والمراد به في الآية القتل حيث يرتكب جزاء للظالمين .

والفاء في قوله : { فَإِنِ انتهوا } للتعقيب . وقوله : { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } قائم مقام جواب الشرط ، لأنه علة الجواب المحذوف .

والمعنى : فإن امتنعوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه ، وأذعنوا لتعاليم الإِسلام ، فكفوا عن قتالهم ، لأنهم قد انتفى عنهم وصف الظلم ، وما دام قد انتفى عنهم هذا الوصف فلا يصح أن تقاتلوهم ، إذ القتال إنما يكون للظالمين تأديباً لهم ليرجعوا عن ظلمهم .

ففي الجملة الكريمة إيجاز بالحذف ، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه .

قال الإِمام الرازي : أما قوله - تعالى - : { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } ففيه وجهان :

الأول : فإن انتهوا فلا عدوان أي : فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر ، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم قال - تعالى - { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فإن قيل : لم يسمى ذلك القتل عدوانا مع أنه في نفسه صواب ؟ قلنا : لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه ، كقوله - تعالى - : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } الثاني : إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين ، فتسلط عليكم من يعتدى عليكم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار : { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شرك . قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسُّدي ، وزيد بن أسلم .

{ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } أي : يكونَ دينُ الله هو الظاهر [ العالي ]{[3396]} على سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيحين : عن أبي موسى الأشعري ، قال : سُئِل النبي{[3397]} صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة ، ويقاتل حَميَّة ، ويقاتل رياء ، أيّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " {[3398]} . وفي الصحيحين : " أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله " {[3399]} وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ } يقول : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك ، وقتال المؤمنين ، فكُفُّوا عنهم ، فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين ، وهذا معنى قول مجاهد : لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل . أو يكون تقديره ؛ فإن انتهوا فقد تَخَلَّصُوا من الظلم ، وهو الشرك . فلا عدوان عليهم بعد ذلك ، والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة ، كقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . ولهذا قال عكرمة وقتادة : الظالم : الذي أبى أن يقول : لا إله إلا الله .

وقال البخاري : قوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ]{[3400]} } الآية : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عُبَيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا{[3401]} : إن الناس صنعوا{[3402]} وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . قالا ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله . زاد عثمان ابن صالح{[3403]} عن ابن وهب قال : أخبرني فلان وحيوة بن شريح ، عن بكر بن عمرو المعافري{[3404]} أن بُكَير بن عبد الله حدثه ، عن نافع : أن رجلا أتى ابن عمر فقال [ له ]{[3405]} يا أبا عبد الرحمن ، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر{[3406]} عامًا ، وتترك الجهاد في سبيل الله ، وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال : يا ابن أخي ، بُني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله ، والصلوات الخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت . قال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات : 9 ] ، { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } قال : فعلنا على عهد النبي{[3407]} صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه : إما قتلوه أو عذبوه{[3408]} حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، قال : فما قولك في علي وعثمان ؟ قال : أما عثمان فكان الله عفا عنه ، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا {[3409]} عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ، وأشار بيده فقال : هذا بيته حيث ترون{[3410]} .


[3396]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[3397]:في جـ، ط،: "سئل رسول الله".
[3398]:صحيح البخاري برقم (2810، 3126) وصحيح مسلم برقم (1904).
[3399]:صحيح البخاري برقم (25) وصحيح مسلم برقم (22) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3400]:زيادة من جـ، ط.
[3401]:في ط: "فقالوا".
[3402]:في و: "ضيعوا".
[3403]:في جـ: "عثمان بن أبي صالح".
[3404]:في أ: "المغافري".
[3405]:زيادة من جـ، ط، أ.
[3406]:في و: "وتقيم".
[3407]:في جـ: "رسول الله".
[3408]:في أ، و: "أو يعذبوه".
[3409]:في جـ: "يعفو".
[3410]:صحيح البخاري برقم (4513 - 4515).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تَكُونَ فتنةٌ يعني : حتى لا يكون شرك بالله ، وحتى لا يعبد دونه أحد ، وتضمحل عبادة الأوثان والاَلهة والأنداد ، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان كما قال قتادة فيما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون شرك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون شرك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : الشرك ويَكُونَ الدّينُ لِلّهِ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : أما الفتنة : فالشرك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول : قاتلوا حتى لا يكون شرك .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَقَاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُون فِتْنَةٌ أي شرك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال : حتى لا يكون كفر ، وقرأ : تُقاتِلُوَنُهمْ أوْ يُسْلِمُونَ .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول : شرك .

وأما الدين الذي ذكره الله في هذا الموضع فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه ، من ذلك قول الأعشى :

هُوَ دَانَ الرّبابَ إذْ كَرِهُوا الدّينَ دِرَاكا بغزْوَةٍ وصِيال

يعني بقوله : إذ كرهوا الدين : إذ كرهوا الطاعة وأبوها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ويَكُونَ الدّين للّهِ يقول : حتى لا يعبد إلا الله ، وذلك لا إله إلا الله ، عليه قاتل النبيّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أُمِرْتُ أنْ أُقُاتِلَ النّاسَ حّتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ الله ، ويقِيمُوا الصّلاةَ ، ويُؤْتُوا الزّكاةَ ، فإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مّني دِماءَهُمْ وأمْوالَهُمْ إلاّ بِحَقّها وَحِسابهُمْ على اللّهِ » .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ويَكُونَ الدّينُ لِلّهِ أن يقال : لا إله إلا الله . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ أمَرَنِي أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حّتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ الله » . ثم ذكر مثل حديث الربيع .

القول في تأويل قوله تعالى : { فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ . }

يعني تعالى ذكره بقوله : فإنِ انْتَهَوْا : فإن انتهى الذين يقاتلونكم منَ الكفار عن قتالكم ، ودخلوا في ملتكم ، وأقرّوا بما ألزمكم الله من فرائضه ، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان ، فدعوا الاعتداء عليهم وقتالهم وجهادهم ، فإنه لا ينبغي أن يعتدى إلا على الظالمين وهم المشركون بالله ، والذين تركوا عبادته وعبدوا غير خالقهم .

فإن قال قائل : وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ ؟ قيل : إن المعنى في ذلك غير الوجه الذي ذهبتَ ، وإنما ذلك على وجه المجازاة لِما كان من المشركين من الاعتداء ، يقول : افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم ، كما يقال : إن تعاطيت مني ظلما تعاطيته منك ، والثاني ليس بظلم ، كما قال عمرو بن شأس الأسدي :

جَزَيْنا ذَوي العُدْوَانِ بالأمسِ قَرْضَهُمْ قِصَاصا سَوَاءً حَذْوَكَ النّعْلَ بالنّعْلِ

وإنما كان ذلك نظير قوله : ( اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ) و( يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سخَر اللّهُ مِنْهُمْ ) وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مضى قبل . وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ والظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ قال : هم المشركون .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عثمان بن غياث ، قال : سمعت عكرمة في هذه الآية : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ : قال : هم من أبى أن يقول لا إله إلا الله .

وقال آخرون : معنى قوله : فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ فلا تقاتل إلا من قاتل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ يقول : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ فإن الله لا يحبّ العدوان على الظالمين ولا على غيرهم ، ولكن يقول : اعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم .

فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ على الظّالِمِينَ لا يجوز أن يقول فإن انتهوا ، إلا وقد علم أنهم لا ينتهون إلا بعضهم ، فكأنه قال : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الظالمين منهم ، فأضمر كما قال : فَمَنْ تَمَتّعَ بِالعُمرةِ إلى الحجّ فَمَا اسْتَيْسرَ من الهدْيِ يريد فعليه ما استيسر من الهَدْيِ ، وكما تقول : إلى من تقصد أقصد ، يعني إليه . وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله ، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم لمن انتهى ، ولا عدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } شرك { ويكون الدين لله } خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب { فإن انتهوا } عن الشرك . { فلا عدوان إلا على الظالمين } أي فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم ، فوضع العلة موضع الحكم . وسمي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة كقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر عليكم ، والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ }( 193 )

وقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على قول من رآها ناسخة( {[1786]} ) ، ومن رآها غير ناسخة قال : المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم { فإن قاتلوكم } ، والأول أظهر ، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار ، دليل ذلك قوله { ويكون الدين لله } ، والفتنة هنا : الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين ، قاله ابن عباس وقتادة والربيع والسدي ، و { الدين } هنا الطاعة والشرع . وقال الأعشى ميمون بن قيس : [ الخفيف ]

هو دان الرباب إذ كرهوا الدي . . . ن دراكاً بغزوةٍ وصيال( {[1787]} )

والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام ، ويصح أن يكون أداء الجزية ، وسمى ما يصنع بالظالمين عدواناً من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع( {[1788]} ) ، والظالمون هم على أحد التأويلين : من بدأ بقتال ، وعلى التأويل الآخر : من بقي على كفر وفتنة .


[1786]:- لقوله تعالى: [فإن قاتلوكم فاقتلوهم].
[1787]:- من قصيدته المشهورة التي قالها يمدح فيها الأسود بن المنذر اللخمي ومطلعها: ما بُكَاءُ الكَبِير بالإطْـــلال وَسُؤَالي فَهَلْ تَرُدُّ سُؤَالِـــــي؟ وبعد البيت: ثُمَّ دَانَتْ بَعْدَ الرِّبَابِ وكَـانتْ كعذَابٍ عُقُوبَةُ الأقْـــــــوَالِ والمعنى: أن هذا الممدوح حمل الرباب على الطاعة حين كرهوا الطاعة – والرباب قبيلة أو أحياء من ضبَّة، وفي اللسان: (دان الرباب: يعني أذلها، ثم دانت بعد الرباب، أي ذلت له وأطاعته) والمعنى واحد.
[1788]:- أي على سبيل المشاكلة كقوله تعالى: [وجزاء سيِّئةٍ سيّئةٌ مِثلها].