ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا النداء للؤمنين فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا . . . } .
أى : يامن آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، اتقوا الله فى كل ما تأتون وما تذرون ، وداوموا على الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - واثبتوا على ذلك .
{ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أى : يعطكم بسبب ذلك نصيبين وضعفين من رحمته - سبحانه - وفضله .
وأصل الكفر - كما يقول القرطبى - كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط . . . أى يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصى ، كما يحفظ الكفل الراكب من السقوط .
{ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } أى : ويجعل لم بفضله نورا تمشون به يوم القيامة . كما قال - تعالى - : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أى : ما فرط منكم من ذنوب ، بأن يزيلها عنكم .
{ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى : واسع المغفرة والرحمة لمن انقاه وأطاعه .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وعد المؤمنين على تقواهم وعلى إيمانهم برسوله ، أن يؤتيهم نصيبين من رحمته . . . وأن يجعل لهم نورا يمشون به ، فيهديهم إلى ما يسعدهم فى كل شئونهم ، وأن يغفر لهم ما سبق من ذنوبهم . . . فضلا منه وكرما .
قالوا : وأعطى الله - تعالى - للمؤمنين نصيبين من الأجر ، لأن أولهما بسبب إيمانهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وثانيهما : بسبب إيمانهم بالرسل السابقين ، كما أعطى مؤمنى أهل الكتاب نصيبين من الأجر : أحدهما للإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والثانى للإيمان - بعيسى - عليه السلام - الذى نسخت شريعته بالشريعة المحمدية .
وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : ضعفين ، وزادهم : { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } يعني : هدى يُتَبَصَّر به من العمى والجهالة ، ويغفر لكم . فضلهم بالنور والمغفرة . ورواه ابن جرير عنه .
وهذه الآية كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] .
وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار يهود : كم أفضل ما ضعفت {[28334]} لكم حسنة ؟ قال : كفل ثلاثمائة وخمسون{[28335]} حسنة . قال : فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين . [ ثم ] {[28336]} ذكر سعيد قول الله ، عز وجل : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } قال سعيد : والكفلان في الجمعة مثل ذلك . رواه ابن جرير{[28337]}
ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود . ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت النصارى . ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذي عملتم . فغضبت النصارى واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء . قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء " {[28338]}
قال أحمد : وحدثناه مُؤَمَّل ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، نحو حديث نافع ، عنه {[28339]} انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عن سليمان{[28340]} بن حرب ، عن حماد ، [ عن أيوب ]{[28341]} عن نافع ، به{[28342]} وعن قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، بمثله{[28343]}
وقال البخاري : حدثنى محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن بَريد{[28344]} عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا يومًا إلى الليل على أجر معلوم ، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا ، وما عملنا باطل . فقال لهم : لا تفعلوا ، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتَرَكُوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا : ما عملنا باطل ، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه . فقال أكملوا بقية عملكم ؛ فإن ما بقي من النهار شيء يسير . فأبوا ، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " انفرد به البخاري{[28345]}
ولهذا قال تعالى : { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.